سينما الواقع
ورد العاصي
دمشق آخر آب/أغسطس 2012. وسط هدير الآليات الثقيلة وأصوات المدافع، والطائرات المحلقة، في قلب حديقة تشرين، أكبر حديقةٍ في المدينة، شرع أحد مخرجي السينما السوريين بتصوير مشهد من فلمه الغنائي الطويل. كنت خارجاً من بيت صديقي الذي يسكن في أول الربوة. مررت بالقرب من الحديقة، لفتتني الحركة فيها فقررت الدخول.
الحديقة خضراء، تزينها الأشجار، بينما الراقصات في الفساتين الملونة مفعمات بالحياة. المخرج ومساعده متسمران أمام التلفاز الصغير لضبط اللقطة الأخيرة. وعلى بعد عدة أمتار منهم كانت عائلات جالسة على العشب؛ طعام هؤلاء الناس وحاجياتهم البسيطة منتشرة حولهم على الأرض والبعض منهم جالس على مقاعد الحديقة. عدة عوائلٍ قد نزحت من حلب تراقب بذهول ولأول مرة كيف يُصنع فيلم في بلدهم. يتجول حولهم بائع أزهار وحارس حديقة وصبي شاي، وغيرهم من الشخصيات، هم بالتأكيد رجال أمن متنكرون، هدفهم ضبط هذا الحشد خوفاً من أي انفلات.
أطفال هذه العوائل يلعبون بهدوء رغم أصوات الإنفجارات ورشقات الرصاص التي تصل إلى مسامعنا من ريف دمشق ومن أحياء أخرى في العاصمة. كي لا يفسدوا التصوير، إحترموا طلب المخرج، فلعبوا بصمت. كان بينهم صبيٌ في حوالي السادسة من عمره، يلعب ويده اليسرى لا تتحرك كأنها مشلولة. تنّبه إليه شاب من فريق التصوير وسأله: “ماذا حل بيدك؟” فأجاب: “لقد كُسرت منذ يومين.” سأله الشاب: “ألا تؤلمك؟” أجاب الطفل: “في البداية نعم لكن أمي قالت لي إنني بطل ولا يجب علي أن أتألم.” قال الشاب: “ولكن عليك تجبيرها.” أجابه الطفل: “لا نملك المال للذهاب إلى الطبيب.” في هذه الأثناء سمعته امرأةٌ خمسينية كانت تجلس على مقربة منه، طلبت من أهله الإذن بأخذه إلى المشفى، فوافقوا دون تردد.
إستمر التصوير وكانت الموسيقى تصدح كي يسمعها الراقصون ويأدوا حركاتهم بتناغم وتناسق على إيقاعها، والأهالي متجمعون حولهم. إقتربت مني طفلة وسألتني: “عمو، ماهذا البيت الكبير في الجبل؟” لم أجبها خجلاً من أي سؤالٍ عفويٍ آخر قد تحرجني الإجابة عنه. لقد كان المنزل المقصود هو قصر الشعب والذي يقع في قمة جبل قاسيون. نعم، قصر الشعب، والحاكم ربما كان يطل علينا في تلك اللحظات، وربما كان يرانا أنا والنازحين في تلك الحديقة، فيظن أن هؤلاء الناس هناك للترفيه والتسلية، وليس لأنهم نزحوا. خجلت من ذلك القصر الجاثم على قلوبنا والشعب ينام في العراء. الشعب ليس له قصر؛ الشعب له سماءٌ وقليلٌ من الأرض، ولا يملك قبراً.
مضت ساعة تقريباً وأنا شارد، ويسيطر على تفكيري ذلك المشهد الذي يُصور أمامي؛ كل هذه الدقة والعناية باختيار الملابس والأكسسوارات، كل هذه البهرجة البصرية والسمعية، إنشغال فريق العمل بمكياج الممثلين والراقصين، وعد خطواتهم. ظننت لثوانٍ أنني في مهرجان في إحدى العواصم البعيدة، حيث استبدلت أصوات القنابل بأصوات الألعاب النارية، ووجوه النازحين وتعبهم بأهالي المدينة الفرحين، ورجال الأمن بمهرجين يرافقون الفرقة. في تلك الساعة، حيث الجميع مشغولون بترتيب تفاصيل فيلمهم، وعلى بعد كيلومترات قليلة، كان أهالي كفرسوسة يحضّرون على عجل أكفان موتاهم، وعلى بعد كيلومترين كانت رائحة دماء شهداء داريا ما تزال تعبق في المكان.
قاطع هذا الشرود عودة الطفل بيده المجبرة، بدت عليه السعادة بهذا المظهر الجديد. أخذ أحد الراقصين قلماً وكتب له: “الحمد لله على السلامة.” وبدأت العبارات تتراكم على الجبس، والطفل تزداد ابتسامته عرضاً. رسم له شاب آخر غيمةً وشمسً، ورسمت له فتاة دراجة هوائية، أما أخته فرسمت مكعبات كبيرة وقالت: “هذه قلعة حلب.” أعطاني القلم فتوقفت كثيراً قبل أن أكتب. كان الجبس لايزال دافئاً، ورجال الأمن وقفوا ليراقبوا ما سأكتب. ترددت كثيراً، إلا أن عينيّ الطفل وفرحهما دفعاني إلى البحث عن عبارة ما، وفي النهاية أنقذني الطفل نفسه، إذ قال لي: “عمو ارسملي كاميرا كبيرة،” وكان ينظر حينها نحو الكاميرا التي يستعملها فريق التصوير. رسمت له شيئاً يشبه الكاميرا تقريباً.
تحولت الجبيرة خلال نصف ساعة إلى لوحة مكثفة من العبارات والصور، لتسرق كل الأضواء، وتفضح زيف ما كان يصنعه ذلك المخرج.
نعم، جبيرة النازح الطفل كانت فيلماً سينمائياً واقعياً بامتياز.