مخيم الرمثا: البؤس لا ينتهي باجتياز الحدود

رأفت الغانم

إتجهنا شمالاً من مدينة عمان إلى الرمثا قاصدين مخيم اللاجئين السوريين. أردت أن أتفاعل مع اللحظة التي سأدونها بدون أية أفكار مسبقة، فحاولت الإسترخاء قدر الإمكان.

كانت الساعة تشير إلى التاسعة مساءً عندما وصلنا. يحيط بالمخيم سور منخفض ومتآكل، ومدخله متسع، يقف عنده حشد كبير غالبيته من الأطفال. يحاول بعض الصبية الخروج من المخيم نحو البقالة المواجهة للمدخل فيمنعهم الشرطي. تحدثت إليه، وبعد شد وجذب أيقنت أنه لن يسمح لي بالدخول. في هذه الأثناء أحضر رجل طعاماً لإدخاله إلى المخيم فمنعه الشرطي من الدخول أيضاً، كما منع امرأة تقف في الداخل من استلام الطعام منه. خرجت امرأة أخرى إلى البوابة برفقتها طفل صغير يئن من شدة المرض. تحدثت إلى الشرطي قائلة إنه بحاجة إلى طبيب فطلب منها أن تتجه إلى مكتب الضابط. كان ذلك يحدث بينما كنت أراقب الحركة بدقة، والشرطي بين فترة وأخرى يعود إلى الأطفال ويركض خلفهم لإبعادهم عن المدخل.

إتجهتُ إلى البقالة المزدحمة علني أجد سوريين من المخيم أو قدموا لزيارته فأتحدث إليهم، ولكن دون جدوى. سألت البائع عن إمكانية دخول المخيم فأخبرني أنّ ذلك يعود لمزاج الشرطي، ونصحني بأن أجرب الدخول من البوابة الأخرى للمخيم.

عند البوابة الخلفية وجدت شرطياً جالساً، وما إن هممت بالدخول حتى ناداني. بعد النقاش طلبت منه مقابلة المسؤول فقال لطفلة صغيرة أن تأخذني إلى مكتب الضابط.

مشيت خلف الطفلة وأنا أتساءل: الآن أصبحت داخل المخيم، فما حاجتي إلى الضابط؟ لماذا لا أتركها وأتجه نحو الناس مباشرة وأطلع على أوضاعهم؟ ولكن بشكل لا شعوري بقيت أتبعها بينما أتأمل المخيم: وحدات سكنية لا تتجاوز العشرة وضعت عليها أعلام الإستقلال، بينما شعارات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين تملأ الجدران والحاويات التي ركنت في الأطراف والتي بدا لي أنها تحتوي على البطانيات والألبسة. على يمين الطريق الإسفلتي ويساره وبين الوحدات السكنية الكثير من الخيام الممتلئة باللاجئين، بينما الآخرون وضعوا بطانياتهم على الأرض بلا سقف يفصلهم عن السماء. البعض منهم يجلس على سرائر في العراء، وآخرون صنعوا سقفاً قماشياً بين الأعمدة ونوافذ الوحدات السكنية.

كان البؤس بادٍ على وجوه الجميع. لم يكترث أحد منهم لي في حين أني كنت أنظر إليهم بلهفة. كانت الطفلة لا تزال تمشي برشاقة وتلتفت خلفها لتطمئن أني لا زلت أتبعها. أطفال كثر يركضون ويلعبون وفتيات يسرن بشكل جماعي بينما الشباب غالبيتهم يجلسون على الأرض. أشارت الطفلة بأصبعها إلى الكرافان حيث مكتب الضابط وغادرت المكان وهي تركض؛ إكتشفت أن المكتب يقع قرب البوابة الرئيسية بعد أن قطعت المخيم بأكمله ابتداءً من البوابة الخلفية! إتجهت نحو الباب ولكن الحارس، بعد السؤال، منعني من الدخول وطلب مني أن أتجه إلى المتصرفية، وهي مكتب حاكم المنطقة، لأن المخيم يقع تحت إدارتها.

عدت إلى البوابة الخلفية ببطء. كنت أتأمل اللاجئين وأتساءل: هل أخرج أم أستغل هذه الفرصة وأتحدث إليهم؟ وأثناء ذلك لمحت رجلاً ضعيف البنية بدا في العقد الرابع من عمره، يجلس على سريره في العراء وينظر إلي بإمعان. توجهت إليه وجلست معه بعد أن استأذنته. سألته عن وضعه في المخيم فحمد الله. أحسست برغبته بمعرفة من أنا قبل أن يجيبني. أخبرته بأني أود الكتابة عن المخيم وأوضاعه. بعدها بدأت أسأله بهدوء بينما يجيبني بشكل مختصر. يكنّى بأبي خالد، وقد وصل من درعا منذ شهر. أخبرني أنّ وجبتيّ طعام، لا يعرف مصدرهما، تصلان المخيم في اليوم الواحد من الخارج وأن هذه الكمية كافية. الوحدات السكنية مخصصة للنساء والأطفال، أما الرجال فيبقون في الخارج حتى في ساعات الظهيرة، يبحثون عن ظل يجلسون فيه. يضيف أبو خالد أنّ المخيم مزدحم ولا يتسع لأعداد اللاجئين، مع أنهم “ما بيوصلوا ألف،” بحسب قوله. يستحم الرجال خارج الوحدات السكنية، حيث خصصت الحمامات بالداخل للنساء والأطفال. لا يوجد تليفزيونات بالمخيم أو أية وسائل اتصال أخرى باستثناء الهاتف الجوال. لا تصرف أية جهة مبالغ مالية للاجئين باستثناء فاعلي الخير الذين يزورون المخيم بشكل فردي. لا يسمح لأي لاجئ بالخروج من المخيم ما لم يجد كفيلاً أردنياً يتعهد لدى المتصرفية بتأمين السكن والعمل له. شاهدت يد أبي خالد لا يستطيع أن يحركها. وددت أن أسأله عن سبب الإصابة لكني تراجعت عن ذلك. بيده الأخرى أخرج علبة السجائر وناولني سيجارة وبدأنا ننفث الدخان ونتحدث. لا يريد أبو خالد أن يخرج من المخيم إلا عائداً إلى سوريا. ولما سألته عن وضع منطقته، إبتسم وقال: “إنتا لازم تحكيلي لأنك جاي من برة.” لم يود أن يحدثني عن سبب خروجه من سوريا، أو كيف عبر الحدود. أحسست بحاجز نفسي لا يمكن كسره بدقائق، فاستأذنته وتابعت سيري باتجاه البوابة.

في الطريق وددت أن أداعب أحد الأطفال. تساءلت: هل هناك من يعتقد بأن هؤلاء الأطفال مذنبون ويجب قتلهم؟ هل كان ينتظرهم مصير أطفال الحولة؟ وقفت قليلاً قبل أن أشاهد شابين. إتجهت نحوهما واستأذنتهما بالجلوس فوافقا بعبارات الترحيب.

الشابان من درعا أيضاً، وقد قدما منذ يوم واحد. نقلتهما سيارة من سوريا هرباً من القصف ضمن قافلة ضمت خمسين شخصاً بينهم العديد من الأطفال والنساء. كانت رحلة عبورهم مضنية ويشوبها الحذر؛ الأضواء مطفأة بينما سار رجل أمام السيارة حتى وصلت إلى آخر نقطة سالكة. ترجل الجميع بعد ذلك وأكملوا السير لمدة ساعة حتى وصلوا مركز الدرك الأردني. أخبراني بأن المجموعة توقفت أكثر من مرة بسبب التعب الذي أصاب الأطفال والنساء، وبأن الطريق كان مليئاً بالحجارة والشوك. بعد ذلك أقلهم الدرك الأردني إلى المخيم. قال الشابان أيضاً إن المهربين الذين ينقلون اللاجئين أحياناً لا يتقاضون المال من الفقراء، وإن الجيش الحر أيضاً يشارك في نقل اللاجئين إلى الحدود. أخبراني كذلك أنّ غالبية اللاجئين من درعا وبأنّ بعض العائلات جاءت من مناطق بعيدة مثل حمص وحماة.

إستأذنتهما بعد فترة واتجهت نحو البوابة بخطى مثقلة. عندما أصبحت خارج المخيم نظرت إلى الوراء ولسان حالي يتساءل عن مكان أفضل لهؤلاء المغلوب على أمرهم.