نازحون في العراء يتحدون القصف وجشع التجار
اطفال يبيتون في العراء بفعل النزوج والطمع- تصوير هاديا منصور
فقدانها لأحد أفراد عائلتها بالقصف الهمجي الذي طال منزلها،لم يمنع الحاجة الخمسينية أم محمد من محاولة التأقلم مع الوضع الذي باتت،عليه حين نزحت من منزلها في ريف إدلب الجنوبي برفقة عائلتها المؤلفة من خمسة أبناء وثلاث بنات معظمهم متزوجين، ويصطحبون معهم عوائلهم.
عائلة أم محمدتفترشالأرض وتلتحفالسماء.حالهم كحال الآلاف ممن خرجوا بأرواحهم من جحيم القصف.فقر حالهم منعهم من الوصول إلى المناطق البعيدة والحصول على منازل للإيجار وسط غياب لعمل المنظمات التي لم تعد تستوعب كل تلك الأعداد.
تقول الحاجة أم محمد:”خرجنا من الموت بعد تهدم منزلنا فوق رؤوسنا، توفي حفيدي قبل أن تستطع منظومة الإسعاف إيصاله إلىأحدالمشافي”.تصمت قليلاً لتتابع بحزن:”ماكانبإمكاننا أن نبقى ونعرض حياة البقية للخطر،لذلك خرجنا وجلسنا تحت هذه الأشجار التي باتت ملجأنا”. وتعزي نفسها بالقول:”ربما لن تطولإقامتنا هنا طويلاً،فنحن نأمل أن تكون فترة قصيرة وتمضي ثم نعود مجدداً إلى بيوتنا وحياتنا”.
الحاجة الخمسينية تستيقط باكراً لتحضر بعض الطعام لأبنائها وأحفادها، تخبز وتطهو بعض المأكولات البسيطة.تجاعيد وجهها توحي بالكثير من المعاناة والبؤس، وفي الوقت ذاته لاتخفي ملامحها قوة تنبثق عن صبر مر تتجرعه كل يوم.
على بعد عشرة أمتار من عائلة أم محمد تجلس عائلة سلمى الكامل(40 عاماً) وهي أرملة منذ أكثر من خمس سنوات.كانت تعيش مع عائلتها بقرية كفرنبودة قبل أن تضطرللرحيل عنها ناجية بحياتها.
تقول الكامل:”حاولت إيجاد منزل يؤوينا من حر الشمس الحارقة ولكن عبثاً كنا نحاول.فالأجرة مرتفعة والماديات لدينا جداً قليلة.آثرنا البقاء تحت الأشجار”.وتضيف بأن أوضاعهم المعيشية تحت الأشجار مأساوية، فالحشرات وقلة المياه والشمس الحارقة تزيد من آلام نزوحهم وبعدهم عن بيوتهم.
وعن دور المنظمات الإغاثية تقولالكامل: “لم نشاهد أي منظمات، كما أن حالنا لم يلفت أي من المجالس المحلية، ولا يسعنا إلا أن ننتظر فرجاً قريباً من الله”.
صمود الكامل تحت أشعة الشمس الحارقة،لم يكن سهلاً على غيرها ممن لم يحتملوا طويلاً،وآثروا الرجوع إلى منازلهم والإقامة فيها رغم كثافة القصف.ومنهم كان ابراهيم السلوم (35 عاماً) الذي لم يكن بوسعه تأمين منزل لعائلته، نتيجة جشع الكثيرين الذين استغلوا أوضاع النازحين وحاجتهم للمنازل،فرفعوا من سعر الإيجار أضعافاً مضاعفة،ليصل في بعض الأحيان إلى 500 دولار أي مايعادل 250 ألف ليرة سورية.
هذاالواقع دفعالسلومللعودة دون تفكير، حيث يقول: “مدينة كفرنبل غدت خاوية على عروشها، ومع ذلك فأنا أعيش فيها مع عائلتي المؤلفة من 6 أشخاص في أحدالأقبية”.وعن كيفية تدبير أموره تحت وطأة الصواريخ المدمرة يوضح السلوم: “عندما يخف القصف أخرج مسرعاً لإحضار الطعام والحاجيات لعائلتي من القرى المجاورة وأعود أدراجي مسرعاً.
ويتابع السلوم: “أصوات القذائف والطائرات الحربية والراجمات تدفع بأطفالي للخوف والهلع طيلة الوقت. أنا فقير،والفقير لا يستطيع الخروج والنزوح لقلة حيلته وقلّة امكانياته”.
النازح أبو أسامة لا يوافق السلوم الرأي ويرفض تعريض حياة عائلته للخطر.فهو نزح عن بيته بحثاً عن الأمان في أرض زراعية تبعد كيلومترات قليلة عن بلدته. يقولأبو أسامة: “خرجنا من البلدة مشياً على الأقدام، حملنا بعضاً من قوتنا وملابسنا.لم نكن مهتمين بأي شيء آخر، فالنجاة من القصف الوحشي والحفاظ على أولادنا كان أهم من كل شيء حتى لو اضطررنا للبقاء في العراء لسنوات”.
وعن الأسباب التي دفعت العوائل للنزوح إلى الأراضي الزراعية يعتقد أبو أسامةأن الكثيرين لا يمتلكون المال الكاف لمغادرة المنطقة. ويضيف:”الناس منهكة وشبه معدمة، لم يبق لديها مصادر دخل أو عمل، كما أن الخوف من التحرك بالسيارات على الطرقات بات خطراً أيضاً، كون طائرات النظام وروسيا تحلق باستمرار في المنطقة، وكل شيء يتحرك يصبح هدفاًلها”.
يتحمل النازحون كل هذه المعاناة أملاً في أن يتوقف قصف مناطقهم ليعود من لم يتدمر منزله إلى بلدته أو مدينته،وسط مخاوف من أن تستهدف طائرات النظام السوري بضرباتها الصاروخية المناطق التي نزحوا إليها.
الناشط المدني علاء الحسن (32 عاماً) ينتقد جشع البعض الذي أجبر الكثيرمن الأهالي النازحين أن يفترشوا العراء.ويقولالحسن:”رغم كل الظروف والأوضاع الصعبة التي يعيشها الأهالي في ريفي إدلب وحماه،استغل بعض ضعاف النفوس من تجار العقارات وأصحاب المنازل حاجة النازحين للمأوى.من أجل كسب المزيد من الربح المادي، وقاموا برفع إيجارات المنازل دون حسيب أو رقيب.وهو مادفع بالنازحين للمبيت في العراء.ليس ذلك وحسب وإنما طلب بعض ملاك بساتين الزيتون من الأهالي النازحون دفع مقابل مادي للسماح لهم بالبقاء في أراضيهم،وهو ما يسمى بالـ “أرضية”.وقيمة الأرضية بدأت بـ 15 ألف ليرة سورية أو مايعادل30دولاراًأمريكياً، وصولاً إلى مايقاربالـ 50 ألف ليرة سورية،وهو مايعادل 100 دولار أمريكي في حالات أخرى.
لم تكن أوضاع النازحين في المخيمات بأحسن حال،فالبطانياتوالشوادر التي صنعت منها تلك الخيام لا تقي حر صيف ولا برد شتاء.فضلاً عن النقص الكبير بالخدمات الصحية والخدمية والتعليمية ومرافق الصرف الصحي.
عضو المجلس المحلي أحمد التركي (38 عاماً) يشير إلى أعمال المجالس المحلية ومنظمات المجتمع المدني حيال الوضع المتدهور والذي وصفه بـ “الكارثة الإنسانية” ويقول:”من خلال تعاوننا مع عدة منظمات في الشمال السوري المحرر،نعمل على تغطية أكبر عدد ممكن من أهلنا النازحين الذين وصل عددهم وفق آخر إحصائيات منسقيالإستجابة في الشمال السوري إلى ما يقارب 504آلاف نازح،عن طريق رفع مستوى التنسيق وتحفيز المنظمات على المشاركة بغية تكامل الأدوار.ومحاولة إعانة كل فرد من هؤلاء النازحين عن طريق التعاون في تغطية التوسع الجغرافي للنازحين ليشمل المناطق الأكثر عمقاً في الداخل السوري”.
ولفت التركي إلىأن المساعدات العامة شملت أكثر من 32 مخيم للنازحين ومنها مخيمات حارم، آفس، تفتناز، كفر بطيخ، جوباس، جسر الشغور، الحمامة، مشمشان، المنطار، تل أعور، سلقين وغيرها.
ومن جهة أخرى يقر التركي بأن أعمال المجالس المحلية ومنظمات المجتمع المدني لم ترقلمستوى جيد من التغطية وتقديم المساعدات، والسبب بذلك يرده للأعداد المتزايدة للنازحين القادمينمن قرى ومدن عديدة ومنها كفرنبودة، قلعة المضيق، قرى سهل الغاب، خان شيخون، كفرنبل، حاس، كفروما، معرة النعمان، معرة حرمة، خان السبل وغيرها، عدا عن أعداد النازحين من مختلف المناطق السورية المتواجدة في المنطقة سابقاً.
في ظل المشاهد المأساوية التي تعيشها المنطقة، يمضي أهالي ريفي إدلب وحماه حياتهم مشردين وخائفين بين سندان القصف ومطرقة الاستغلال،وسط تجاهل مقصود وممنهج من المجتمع الدولي الذي اكتفى بمشاهدة آلامهم دون أن يحرك ساكناً.