وذهبت الحرب بالمنزل وبأثاثه

مدينتي الحبيبة كفرنبل كانت من أوائل المدن التي هبّت لنصرة أطفال درعا. هؤلاء الصبية الكبار الذين كتبوا على جدران مدارسهم عبارات تندد بالنظام وتطالب بإسقاطه. فكان ردُ النظام همجياً، وقام بتعذيب هؤلاء الأطفال والتنكيل بهم. هتفت كفرنبل في مظاهراتها: “لمّا تنادي طفلة بدرعا، تلبّي كفرنبل برجال”.

ما أزال أذكر جيداً عندما كانت المظاهرات تجوب أرجاء المدينة. فكنا ننظر إليها بفرح وغبطة، ولكن بتخفّي عن عيون النظام وجواسيسه.

ثمَّ أتى اليوم الذي دخلت فيه قوات النظام مدينتي كفرنبل، ونشرت حواجزها في أنحائها. فقطّعت أوصالها عبر الحواجز. ومن هذه الحواجز، حاجز المعمل.

وكان حاجز المعمل مواجهاً لمنزلنا من الجهة الشرقية. ونحن كنا نسكن في الطابق العلوي، ومَن يريد أن يأتي إلينا، عليه أن يصعد على الدرج الخارجي للمنزل المطل على حاجز الجيش.

والدتي (60 عاماً) وبعد عناء طويل، استطاعت مع والدي أن يكملا أثاث المنزل. وكنت أرى الفرحة بعيونهما، فلكل قطعة من أثاث المنزل ذكرى جميلة لديهما. لكن وجود الحاجز أمام منزلنا نغّص علينا حياتنا، فبتنا لا نستطيع الدخول والخروج من المنزل إلّا بصعوبة بالغة. وكان مَن يريد زيارتنا عليه التفكير ألف مرّة قبل أن يقرّر المجيء، فكما يقول المثل الشعبي: “لا تنَم بين القبور كي لا ترى الكوابيس!”

أخذَ الجيش بالتضييق علينا، حيث حرمنا من إضاءة المنزل ليلاً، فهو عندما يرى ضوءاً أمام منزلنا يطلق النار إلى أن نُطفئ النور! فاضطررنا إلى السكن في الطابق السفلي للمنزل.

ولكنّ الجيش لم يكتف بذلك، وأخذ بالتضييق على السكان أكثر فأكثر… وكان في معظم الليالي يطلق عيارات نارية قوية وكثيفة، لبثّ الرعب في قلوب الأهالي. وكانت الطلقات تخترق جدران المنازل ومنها منزلنا، الذي أصبحت جدرانه تشبه الغربال لكثرة الرصاص المستقر فيه. وأنا وعائلتي كنا نختبئ في المطبخ، المحمي بثلاثة جدران من جهة الحاجز، ظناً منا أنه أكثر أماناً من بقية أرجاء المنزل!

تمادى الجيش في ظلمه، فأصبح يأخذ الشباب من منازلهم ويستخدمهم كدروع بشرية خوفاً من هجوم الثوّار. ولأنّ إخوتي كانوا شبّاناً، اقترحت أمي أن ننتقل إلى منزل آخر في حارة بعيدة عن الحاجز. وهناك سبب آخر لانتقالنا، لأنّ أخي الذي كان في الجيش، انشقَّ عنه وسيأتي للسكن معنا، فأصبحنا بذلك لا نستطيع أن نعيش قرب حاجز الجيش.

وجاء اليوم الموعود، ليهِم الثوار بتحرير كفرنبل من هذه الحواجز، لشدّة ظلم جنود النظام للأهالي… وكان ذلك في يوم العاشر من أب/أغسطس 2012 في الأسبوع الأخير من شهر رمضان. فاضطررنا للنزوح إلى قرية مجاورة لمدينتنا، ومكثنا هناك خمسة أيام.

سيدة وزوجها ينتظران وسيلة نقل _ حي السكري _ حسام كويفاتية
سيدة وزوجها ينتظران وسيلة نقل _ حي السكري _ حسام كويفاتية

بعد ذلك جاءنا الخبر السعيد، وهو خبر تحرير مدينتنا بالكامل من براثن هذا النظام الغاشم.

غمرتنا الفرحة وعدنا إلى مدينتنا على أمل العودة إلى منزلنا الذي فارقناه طويلاً.

لكن هنا حدثت الفاجعة. فعندما عدنا إلى المنزل لنتفقده، كان في معظمه دون جدران ونستطيع رؤية السماء من خلال السقف، لكثرة الفجوات فيه. وكان دون أثاث، إلّا بعض الأشياء التي مزّقتها القذائف وصواريخ الطائرات. لم يبق لنا من أثاث المنزل أي شيء! سوى ذكرى جميلة للأثاث والمنزل الجميل، الذي أفنيا والدَي عمريهما في بنائه.

في البداية، كان منظر المنزل صادماً ومفجعاً بالنسبة لنا جميعاً وخصوصاً والدتي. لكن بعد ذلك سلّمنا أمرنا لله، وقلنا الحمد لله أنّ أحداً منا لم يُصب بأذى.

الحمدُ لله تحررّت المدينة… وندعو الله الرحمة لشهدائنا، وأن تكون دماؤهم طريقاً لتحرير وطني الحبيب بالكامل من هذا النظام المجرم.

خولة المحمد (40 عاماً) كانت تعمل كمدرّسة قبل الثورة وهي حاليا تعمل في راديو فرش في كفرنبل حيث تعيش مع والدها في منزل صغير.