هرّبت ذكرياتي معي بالحذاء

لن أنسى ذلك اليوم الذي خرجت فيه أنا وأمي وأختي من مدينتي القصير في ريف حمص. كان ذلك في أواخر أيار/ مايو 2013، وبعد اشتداد القصف والحصار من قبل قوات النظام وحزب الله اللبناني لأحياء مدينتنا بعد أن احتلوا القرى المحيطة بها.

لم يكن بوسعي إخراج أي شيء يذكّرني بأجمل أيام حياتي في بيتي ومدينتي التي خلقت وترعرت فيها، حتى الكمبيوتر المحمول لم أستطع إخراجه معي. وذلك بسبب اضطرارنا للمرور عبر حواجز الجيش السوري، ومن غير المسموح لنا الخروج إلاّ بالثياب التي نرتديها.

لم أستطع الاستسلام، قررت أن أضع بضعة من الصور والفيديوهات بفلاشة (وحدة الذاكرة الوميضية أو فلاش ميموري) لأخرجهم معي. الفلاشة شيء خطير جداً، قد يعرّض حياتي لمخاطر كثيرة، إن وجدها معي احد عناصر النظام، لأنني سأحاسب على أي صورة أو فيديو موجود داخلها، حتى وان كانت مجرد صورة لطفل صغير أو حارة من حارات المدينة. لكنني لم أكترث. كنت قد توكّلت على ربّي في رحلة الخروج، التي لم نتوقع أنّها رحلة الوداع الأخير لوطننا.

انطلقنا أنا ومن معي وعيوننا تذرف الدموع. ربّما لأنّنا أيقنّا انه لن يكون لنا عودة هذا المكان مرة أخرى، إلى ان يشاء الله. حملتنا السيارة التي كانت تسطيع أن تخرجنا فقط الى حدود المنطقة لمجاورة لنا. سيطر الخوف على قلوبنا، لأننا سنقابل أشخاصاً لايوجد في قلوبهم رحمة أو شفقة. وعند وصولنا إلى حدود المنطقة المجاورة، ترجّلنا من السيارة لنكمل المسير مشياً على الاقدام، وذلك في فترة الظهيرة. شخصان عاجزان كانا برفقتنا، توليت أنا وأختي مساعدتهما ليكملا الطريق معنا. وبعد مرور أكثر من 3 ساعات ومعاناة كبيرة بسبب الحر الشديد، وبوجود الأعداد الهائلة من السكان النازحين من المدينة. بعضهم كان متواجداً منذ أيام هناك. وصلت سيارات كبيرة (قاطرة ومقطورة) لتنقلهم من هنا. كان جنود النظام يدفعون بهم مثل الأغنام ويلقون بهم فيها. لم نستطيع الاستراحة ولم نتجرأ على الدخول إلى أحد المحال لشراء الماء. أهل البلدة كانوا يوالون النظام، وكانوا ينظرون إلينا بقرف وكأننا إرهابيين.

سيدة تمشي في حي سيف الدولة. تصوير حسام كويفاتية

نحن جميعاً، من نزحنا من البلدة، نساء وأطفال وكبار السنّ، لم تعد لدينا القدرة على تحمّل القصف المتواصل والمكثف والحصار الشديد. بقينا أكثر من ساعتين في هذا المكان، إلى أن وجدنا سيارة نخرج بها من المنطقة لنبدأ رحلة
أخرى. انطلقنا بالسيارة ونحن في غاية التعب، لنقف عند أول حاجز متواجد في هذا الطريق. لم نتعرض لأي مشكلة هنا، وتابعنا مسيرنا الى ان وصلنا الى الحاجز الثاني، بدأت محاولات استفزازا بالكلام من قبل عناصر جيش النظام. بقينا صامتين وكأن شيئاً لم يكن. بلغنا الحاجز الثالث، جاء ضابط وأمرنا بإبراز هوياتنا(بطاقاتنا الشخصية)، اخرجناها وسلّمناها له. أخذها وذهب ليأتي عسكري ويأمرنا بالنزول من السيارة ليفتشها. كان من الصعب أن ينزل الأشخاص العاجزون، فطلبت منه ابقاءهم في السيارة. لكنه لم يقبل بذلك ، قمنا انا واختي بمساعدتهم ليجلسوا على حافة الطريق الى أن ينتهي من التفتيش، وبعد انتهائه أمرنا بالصعود. أتى ذلك الضابط بعدعشر دقائق. سأل: من آلاء؟ فقلت له: أنا! كرر سؤاله وهو ينظر إلينا بحقد: من آلاء؟ فأجبته بصوت يرتجف من الخوف: أنا آلاء! نظر إليّ وكأني قد قمت بارتكاب جريمة عظيمة، وأدار ظهره وذهب. حينها تيقّنت انني لن اكمل الطريق مع أهلي. أخرجت هاتفي الجوال، وأعطيته لأختي، وبدأ الخوف يزداد في داخلي دون ان اظهره لمن حولي. كان يقابل الخوف في داخلي ثقة وقوة إيمان بالله لم تنقص أبداً. السيدة المسنة وزوجها المعوّق كانا يبكيان ويدعوان الله طوال الطريق أن يحفظنا من غدر جنود النظام.

مر على وقوفنا عند هذا الحاجر قرابة الساعة. في هذه الاثناء ونحن داخل السيارة ننتظر الهويات، رأينا امرأة مع أطفالها الثلاثة الصغار، وابنة بعمر الـ 13، لكنها جميلة جداً. كانوا يبكون في منتصف الطريق. صدر أمر باعتقال الفتاة والأم لاتريد أن تفارقها. كما قيل لنا. أتى ذاك الضابط اللعين واقترب منّا، وبدأ ينتقل بنظره من شخص لآخر بصمت. يحاول أن يربكنا ويخيفنا. ثم رفع يده وذهب باتجاه السائق، وبدأ يقرأ الأسماء مجدداً. بعد كل تلك الحركات المتمردة سلمنا الهويات وأمرنا بإكمال طريقنا. عبرنا الحاجز بفضل الله تعالى، وكان من أصعب الحواجز طوال الطريق. وصلنا منهكين إلى بلدة حسياء، استقبلتنا عائلة هناك لبضعة أيام. ثم انتقلنا الى مدينة قارة تحت جنح لظلام، مع مجموعة من الثوار، ومن ثم إلى بلدة عرسال اللبنانية الحدودية عبر طريق وعرة.
بقينا في مسيرنا أكثر من أسبوع، نتنقل من منطقة لأخرى في وضح النهار وظلمة الليل، حتى وصلنا إلى هذه المخيمات. مكثنا عند أقارب لنا لبضع أيام ومن ثم انتقلنا الى بلدة داخل لبنان. عندما وصلنا الى ذلك المكان كان قد مضى على الخروج فترة زمنية جعلتني اغرق في بحر الشوق لبلدي ومدينتي ولروتيني اليومي أيضاً، وذكرياتي المتواجدة في كل مكان فيها. كنت أشتاق لسماع تلك الاصوات التي اعتدت ان اسمعها كل لحظة وكل ساعة وكل يوم. أصوات الرصاص والقذائف والصواريخ
والطائرات، المظاهرات وتشييع الشهداء أيضا.

لم أستطع الصبر طويلا ، فأسرعت لشراء لابتوب (حاسوب محمول) وعند عودتي الى البيت هرولت باتجاه حذائي الشتوي الذي كنت أرتديه اثناء رحلة خروجي من القصير إلى أن وصلت إلى لبنان، لأخرج “الفلاشة” من داخله التي تحمل بداخلها كل ذكرياتي.

آلاء الزهوري (20 عاماً) حالت الثورة دون إكمالها لدراسة المرحلة الثانوية وهي تعمل على تطوير مهاراتها في صناعة الأفلام والتمثيل المسرحي والكتابة.