لا بد من إيقاف هذه الحرب

أذكر تماماً ذاك اليوم الذي تركنا فيه منطقة السبينة بريف دمشق باتجاه كفرنبل، كان يوم الجمعة في 21 أيلول/ سبتمبر 2012. حين خرجنا و تركنا المنطقة بسبب القصف المستمر الذي كانت تتعرض له.

يومها سلك سائق السيارة التي استأجرناها وهي سيارة نقل صغيرة، طريق البويضة، لأن الطريق الرئيسي كان مقطوعاً بسبب الاشتباكات. شوارع يملأها الركام، أشلاء وجثث مبعثرة، بذلات عسكرية لوّنها الدم اليابس، بيوت مهدمة، سكون تام يقطعه صوت القذائف التي تقع هنا وهناك، والرصاص الذي يصرخ وحيداً في شوارع الأحياء، فقد باتت هذه المنطقة خالية تماماً من السكان.

لم نعتقد أبداً بأننا سنخرج من هذه المنطقة، بسبب الانتشار الكثيف للقناصة على أسطح الأبنية، والذين كانوا يستهدفون كل ما يتحرّك خصوصاً المدنيين. كانت قلوبنا مشحونة بالخوف والحزن والألم على ما شاهدناه من دمار، وعيوننا تترقب الطريق بصمت خرقه صوت أختي وهي تسأل: “متى سنخرج من هنا”؟

قطعنا البويضة أخيراً. وقفنا عند أول حاجز للجيش النظامي، طلب العناصر منّا ورقة، كنا قد أخذناها من المختار، حتى يسمحوا لنا بإخراج أثاث المنزل. ولكثرة الحواجز المنتشرة على الطرقات، وقفنا ساعة كاملة وراء طابور من السيارات، التي تقف بالدور للتفتيش الكامل. وما كان علينا إلا أن ننتظر الضابط حتى يستيقظ ويأخذ كوباً من القهوة ويسترخي.

بستان القصر في حلب سيدة تصطحب أطفالها تسوق بعض الحاجيات.تصوير: صلاح الأشقر

ووسط هذه الزحمة، قال رجل يحمل بضاعة في سيارته: “إلى متى سنقف هكذا؟ أنا هنا منذ أكثر من ساعة”. وما هي إلا ثوانٍ قليلة حتى خرج عسكري بشعرٍ أشقر مسترسل، وبلهجة قاسية يقول: “حيوان ولا.. نزل حمولتك عالأرض”. لم يصغِ الرجل إليه، فقام العسكري بإخراجه من السيارة رغماً عنه وضربه وشتمه وألقى كل حمولته على الأرض. أذهلنا الموقف… بدأنا أنا وإخوتي نتساءل ماذا سيفعلون بالرجل؟ نحن ولحسن حظنا لم يفتشوا السيارة التي كانت تقلّنا. ولكننا لم نعرف مصير ذاك الرجل، لأن سائق سيارتنا تابع طريقه، إلى أن وصلنا إلى أكثر الحواجز خطورة حاجز القطيفة، والذي عرف بسوء معاملته، وهو أقوى حاجز من الحواجز المنتشرة على الطرقات.

خطوات قليلة تفصل حاجز القطيفة عن حاجز آخر. هناك صعد إلى السيارة عسكري يرتدي بزة سوداء كتب عليها “مكافحة الإرهاب” أخذوا الهويات، سألنا أحدهم: “إلى أين تذهبون؟”. كنا نخشى أن نقول إلى كفرنبل، لأن المدينة كانت محررة منذ أشهر قليلة، فقلنا إلى معرة النعمان.

وهنا شعر أخي بالخوف لأن سنه مناسب لكي يأخذوه إلى الخدمة العسكرية ولم تكن معه إذن تأجيل، ولكن لكثرة الظلام لم يعرفوا اذا كان شاباً أم فتاة.

استرحنا لنصف ساعة في النبك. تابعنا المسير حتى وصلنا إلى طريق حمص، شاهدنا جسر الرستن شبه مهدم، بعدما كان جسراً للعبور، أصبح اليوم عبارة عن آثار وذكريات موجعة.

شاهدنا المنازل التي تملأها ثقوب الرصاص، وأخرى تركت قذائف الدبابات بصمتها على جدرانها، بالإضافة إلى العبارات التي كتبت على الجدران في الشوارع “من هنا مروا جنود الأسد”.

كانت سيارتنا مليئة بالأمتعة وأثاث المنزل فضاقت بنا، لأننا كنا تسعة أشخاص، وكان هناك سيارتان تسيران على نفس الطريق، استقلّ أبي إحداهما، لانها سلكت طريقنا ذاته، وفي الظلام الدامس، سمعنا صوت كلام غير مفهوم، وضوء سيارة لمع فجأة أمامنا. رأينا ثلاثة جنود، سألنا أحدهم: “وين أوراق السيارة؟” وسألوا عن صاحب الأغراض المنزلية في السيارة، وهنا كان والدي في سيارة أخرى مرت قبلنا بدقائق، أجابهم السائق أن أبي ذهب في السيارة التي مرت قبل لحظات. لم يصدقوا أرادوا أن ينزلوا كل الأمتعة التي نحملها. خفت كثيراً، ولكنّ أخوتي لم يكترثوا للأمر وبدأوا بالضحك.

سألو أمي مرة أخرى عن والدي وإلى أين نحن ذاهبون؟

لم أسمع كلامهم جيداً حيث قالوا لنا: “يا الله نزلوا يا بنات”.

صمتنا ثوان وقلنا لهم: “الجو بارد ولا نستطيع الخروج من السيارة”.

رأيت السائق يدفع لهم نقوداً ليتغاضوا عنا. فابتسم العنصران وقالوا لنا: “كنّا نمزح فقط”.

تابعنا طريقنا حيث الظلام كان سيد المكان. برزت عبارة سقط عليها ضوء السيارة “الله للعبادة والأسد للقيادة”.

توقفنا مجدداً عند حاجز للنظام، عسكري من البارة بريف إدلب الجنوبي، يسأل أبي عن عمله، ومن أين هو؟

ويقول له: “لماذا انشق كل أهالي كفرنبل، معظمهم من الشرطة، أنتم معارضون كثيراً”.

بدأت اسأل نفسي “متى سنصل؟ بدأنا نشعر بالبرد”. قالت أختي وأومأت إلي لأنظر إلى عناصر الجيش، كانوا يطلبون من صاحب السيارة نقوداً. أرادوا أن يشتروا طعام العشاء على حساب السائق بالإضافة إلى علب المعسل التي يطلبونها في كل رحلة.

لم نستطع إكمال طريقنا إلى مدينة كفرنبل، بسبب حلول الظلام. كانت قوات الجيش تقنص أي مصدر للضوء. ترددنا كثيراً بالعبور وإكمال المسير، فبتنا الليلة في منزل السائق في قرية “الهلبة” شرقي معرة النعمان، كانت ليلة هادئة لا تشبه الليالي التي أمضيناها في ريف دمشق. لم نسمع أصوات انفجارات أو إطلاق رصاص أو حتى قذائف المدفعية في تلك الليلة.

وفي صباح اليوم التالي السبت 22 أيلول/سبتمبر 2012 خرجنا إلى كفرنبل. ما هي إلا لحظات وتنتهي المعاناة. هكذا كنت أعتقد. سينتهي القصف والحصار، فبعد مرورنا بأكثر من خمسين حاجزاً، وصلنا إلى كفرنبل المحررة، بدت لي غريبة بعض الشيء، فآثار القصف والدمار جعلتني أشعر وكأني أزورها لأول مرة. بخلاف ما اعتقدت، لم تختلف الأمور كثيراً، طائرات النظام اعتادت قصف كفرنبل من حين لآخر.

تقول لي أمي: “لم تعد الحياة تطاق… نموت كل يوم… نعيش في الهلع والخوف… المرأة السورية تعاني، تفقد الابن والزوج والأخ… لا بد من إيقاف هذه الحرب”.

ريم الحسن (19 عاماً) تركت الدراسة بسبب ظروف الحرب. تعيش مع أهلها، حيث تعمل كمذيعة ومراسلة لراديو فرش في كفرنبل في أدلب.

بإمكانكم قراءة هذا المقال باللغة الإنكليزية على الرابط التالي