لم يعد لدى عبدالله ما يعيش من أجله
حين عاد جارنا عبدالله (38 عاماً) من عمله مساءً، كان باديا عليه التعب، لكن زوجته سحر (28 عاماً) لم يستقبله وجهها المشرق ولا ضحكتها المعتادة. سأل عبدالله سحر عن سبب هذا الوجوم فأخبرته عن شعورها بالوهن والتعب.
أسرع عبدالله مصطحبا زوجته إلى الطبيبة، والمفاجئة كانت حين أعلمته الطبيبة بخبر حمل زوجته بعد انتظار دام أكثر من عشر سنوات. حلموا طويلاً بمولود لهما، اكتملت الفرحة حين علم عبدالله بأن سحر حامل بتوأم. شكر عبدالله ربه على هذه الهدية الرائعة التي منحه إياها.
وأنجبت سحر ولداً وفتاة، سعد وسعاد. شعر الأبوين بفرحة عارمة. كانت سحر تقول وتكرر “لقد ملآعلي وعلى زوجي حياتنا، لقد أشعرانا أن الحياة جميلة، جميلة جدا”. كانا يكبران أمام أنظار والديهما ويكبر معهما الحب والأمل. كان عبدالله ينظر إلى طفليه بسعادة كبيرة، ويلعب معهما، يداعبهما، ويرعاهما، ويحاول أن يضاعف عمله في البناء رغم المشقة لكي لاينقص عليهما أي من الحاجيات، وكان ينظر إليهما ويسأل “متى سأراكما يا صغيري تدخلان المدرسة؟ متى تدخلان الجامعة؟ وهل يا ترى سأراكما شابين رائعين قبل أن أموت؟”.
بدأت الثورة السورية وكان عمر سعد وسعاد خمس سنوات، آثر عبدالله عدم التدخل والتزم الحياد، بالرغم من قناعته أنها ثورة محقّة، ولكنه كان يشعر أن لا طائل من قتال نظام اجتمعت معظم الدول على دعمه ومساندته ضد الشعب السوري الأعزل. كان يقول ”كيف للعين أن تقاوم المخرز” (وهو مثل شعبي يتحدث عن صعوبة المواجهة). كما أراد عبدالله أن ينأى بزوجته وطفليه عن الأحداث العنيفة.
إنتهت مرحلة المظاهرات السلمية واتجهت الثورة نحو العمل العسكري المسلح، وحينها بدأت القذائف والطيران الحربي والصواريخ تنهال على المدنيين من كل حدب وصوب. بدأ النزوح الجماعي، شعر عبدالله بالخوف على زوجته وولديه فنزح عن مدينته معرّة النعمان، قاصداً القرى المجاورة ريثما تهدأ الأوضاع.
استمر عبدالله بعيداً عن مدينته لأكثر من عام. تعرّض للفقر والتشرّد، لاسيما وقد زادت النفقات نتيجة ارتفاع الأسعار الذي تزامن مع قلّة الدخل، و شبه توقف عن العمل بسبب النزوح من منطقة إلى أخرى، ذلك أن معظم القرى والبلدات لم تسلم من القصف اللاانساني من مدافع وطائرات النظام.
قرر عبدالله العودة إلى المعرة بعد هدوء نسبي للمعارك وعودة عدد كبير من أهلها إليها. وفعلاً عاد مع عائلته إلى منزله الذي تضرر بشكل بسيط من جراء القصف، فقام بترميمه، وكذلك عاد إلى العمل. بدأت أمور عبدالله تتحسن، وخاصة وأنه لم يعد مضطرا لدفع إيجار البيت. كما أنه قام بزراعة بستانه الصغير بكافة أنواع الخضروات.
كانت مدينة معرة النعمان تتعرض للقصف بالبراميل المتفجرة من قبل المروحيات العسكرية التابعة للنظام البعثي كل بضعة أيام. عندها يسارع عبدالله للاختباء مع عائلته في إحدى المغارات القريبة من بستانه. وبعد عمليات اختباء متكررة لم تعد عائلة عبدالله تختبئ في المغارة ذلك أن القصف يتكرر باستمرار، وشيئا فشيئا أصبحت العائلة لا تبرح المنزل سواء جاءت الطائرة الحربية أم لا، كلهم إيمان أن” “المكتوب ليس منه مهروب.”
إستيقظ عبدالله في ذلك اليوم باكراً، وكان ذلك في صباح 15 نيسان/أبريل 2014، طلب إلى زوجته خفض صوتها وعدم إحداث ضجيج حفاظا على نوم هادئ لطفليه، وغادر إلى عمله بعد أن تمتع بالنظر إليهما وهما نائمين كما اعتاد أن يفعل كل صباح.
يومها جاءت كعادتها الزائرة الغير مرغوب فيها إلى سماء المعرة. الطائرة الحربية، قامت بخرق حاجز الصوت استعدادا لقذف أحد صواريخها. انتابنا الخوف الشديد هذه المرة، وكأننا علمنا بأن حارتنا هي المستهدفة.
عاد عبدالله مساءا ليجد منزله مدمراً. وكأنه مجرد أطلال فارغا من أي نوع للحياة. وقف مندهشا للحظات، ثم سارع إلى المغارة متمنيا أن يجد عائلته فيها. ولكنه لم يجدها. شعر لوهلة بأنه عرف ما الذي حدث، ولكنه راح ينكر إلى أن أكد له أحد الجيران الخبر الأليم.
نعم لقد فقد طفليه اللذين استشهدا آنذاك فورا، فيما توفيت زوجته سحر بعد إسعافها إلى المشفى في وضع خطر. لازلت أذكر كم كانت صدمته كبيرة، كم راح يتمنى لو أنه استشهد مع زوجته وطفليه، فلم يعد لديه ما يعيش من أجله.
حمل عبدالله السلاح وخرج مع الثوار جهادا ضد هذا النظام المجرم، وبات دائما على الخطوط الأمامية في جبهات القتال فهو جدا متشوق لأن يلقى طفليه وزوجته في الجنة، ربما غدا أو بعد غد، وعيناه ابدا لا تكفّان عن ذرف دموع الألم.
رزان السيد (28 عاماً)، متزوجة أم لثلاثة أبناء، تحمل إجازة من كلية التربية وتعمل مدرّسة في معرة النعمان.
بإمكانكم قراءة هذا المقال باللغة الإنكليزية على الرابط التالي