من دمشق إلى حلب رحلة التسع ساعات
في شهر أيار/ مايو 2012، لم أعد أذكر اليوم بالتحديد، قررت السفر من دمشق حيث أدرس إلى حلب حيث يقيم أهلي، من أجل قضاء فترة العطلة ما قبل الامتحان الذي يكون في شهر حزيران/ يونيو عادة.
أحكمت جيداً حقائب السفر التي سأحملها لوحدي إلى الكراج. عمّي الشرطي كان منشغلاً باستنفار تلوَ الآخر، بسبب الهجمات على المخفر من قبل الثوار، فلم يتفرّغ لي ولو حتى ليودعني. حقائبي ثقيلة لكثرة الكتب الجامعية فيها، ولكني حملتها كما أحمل الهموم التي تثقلها.
عندما وصلت إلى أوّل الحارة لأوقف سرفيس (سيارة أجرة)، مرّت مظاهرة لطلاب مدارس الشهادة الإعدادية. كان آخر يوم في امتحاناتهم، فودّعوا المدرسة بعبارات “الله، سوريا، حرّية وبس”. وهي عبارات قلّ سماعها في تلك المنطقة. وانتظرت انتهاء المظاهرة تحت الشمس الحارقة، إلى أن وصل السرفيس الذي أوصلني لكراجات العباسيّين، وهناك التقيت بزميلتي الجامعية صفاء، هي من صافيتا، ساعدني من معها بحمل الحقائب لمخزن الباص.
كانت صفاء تظنّني من مدينة حلب. وكانت دائماً تقول لي: “لو أن سوريا كلها مثل حلب ترفض هذه المظاهرات وتدعو للعيش بسلام”. إلا أنني من سكان حلب فقط، وتعلمت الّلهجة الحلبية منذ طفولتي، وهذا ما دعاها للظنّ بأنني حلبية، فأرادت مساعدتي، لأنها تحب حلب وسكانها، كما تحب صافيتا وأهلها.
جاء موعد انطلاق الباص، وكان معظم ركّابه من أهالي حلب، وأول حاجز تفتيش كان على بوابة الكراج فأنزلوا الحقائب لتفتيشها. فقالت امرأة من الركاب: “أما كانوا يستطيعون تفتيشها قبل وضعها بالباص؟!”. وبعد مرور حوالي نصف ساعة على التفتيش انطلقنا دون توقّف حتى حاجز القطيفة، كانت السيارات التي تنتظر التفتيش لا تعد. ركاب الباص بدأوا بالضجر فقالت امرأة: “الله يلعن أبو هالوضع كنّا في ثلاث ساعات نصل حلب أما الآن نستغرق ثلاث ساعات على الحاجز الواحد”. ناصرها زوجها: “إشّو كان بدنا بهالمشاكل والله نحنا كلنا أخوة، وما عمنقاتل إلا أخواتنا. كويس هيك هالانتظار”. وصلنا لحاجز التفتيش وأخذوا الهويّات منّا، والحمدلله لم نكن من المطلوبين لأننا من حلب، فكلمات التّرحيب لم تفارق أفواه العساكر بقولهم: “هلا بصحباتنا. هلا بأهل حلب إن شاء الله توصلوا بالسلامة”.
حواجز النظام كنّا نعبرها بكل سهولة، حتى وصلنا إلى مشارف حمص، كنّا نسمع صوت رصاص من بعيد. وصلنا استراحة حمص، وكانت مغلقة بالكامل، لا يوجد فيها أحد سوانا، بدأ الركاب يقولون للسائق: “كأنها منطقة مقطوعة، لماذا جلبتنا لهنا، لا يوجد سوى صوت الرصاص”. وفجأة سمعنا صوت قذيفة هاون تمرّ من فوقنا، بدأنا بالصراخ رجالاً ونساءً وأطفال، وارتفع صوت الرصاص شيئاً فشيئاً، وكأنه يقترب منّا، ونحن بداخل الباص، فلم يتجرّأ أحد منا على النزول، ولم يجرؤ السائق على إعادة الانطلاق.
تعالت أصوات الركاب تلوم السائق على الدخول إلى استراحة حمص، فقالت له امرأة باكيةً ومرعوبة: “من اللّازم عليك أن تسأل عن الطريق قبل خروجك من الشّام”. فأجاب السائق بصوت مرتفع: “والله يا أختي سألت بس هذه النوعية من الاشتباكات لا موعد لها ليخبروني”. كلام وكلام صراخ وأصوات رصاص تكثر وتعلو، فحتى الرجال بدأوا بالبكاء، من شدة الخوف والهلع، بدأ رأسي يؤلمني، خفضته على الكرسي الذي أمامي، فبدأوا بمواساتي: “لا تخافي يا حبيبتي، أزمة وستمر إن شاء الله”.
قرّر السائق النزول معرّضاً نفسه للخطر، ليكتشف مكاناً نخرج منه، غاب عن أعيننا، وبدأ الركاب بنشر الاشاعات “يا حرام يمكن مات” وآخر “بس ما يكون انصاب” وأخرى “أنا بظن أنه خُطِفَ”. مرّت عشر دقائق، فجاء مسرعاً نحو الباص قائلا: “أمّنَ الجيش لنا طريقاً للعبور، فهيا تهيؤوا بسرعة قبل فوات الأوان”. قالت فتاةٌ له: “وكيف ستخرج من وسط هذا الرصاص الكثيف.. ألا تخشى أن يطلقوا علينا النار” ، فطمأنها بحديثه مع أحد الضبّاط بأنهم سيضمنون سلامتنا. خرجنا والحمد لله بسلام للطريق العام، وصلنا جسر الرّستن الذي تركته صامداً وأراهُ الآن ساجداً، فيا للأسف على أروع مكان في الرستن، و يا خسارة أجمل مناظر بلادي، باتت ركاماً ومن أسوأ المناظر.
عدنا لنتخطى مدينة حماة من طريق السلمية، ووقفنا باستراحة في صحراء السلمية، وكأنها بنيت حديثاً وكان الجوّ بارداً والوقت بعد العشاء. لم تكن سوى هذه الاستراحة منارة في جو ظلمة وغبار، ولم أجرؤ على النزول من الباص. بقيت معي فتاة خائفة قالت لي: “أنا أخشى السفر ليلاً و لولا الاشتباكات القائمة في حماة لما كنا أتينا لهذه المنطقة المقطوعة”.
انطلقنا من جديد لنصل ريف إدلب حيث صادفنا أول حاجز الثوار. دخلوا الباص ولم يكلّموا النساء أو حتى يطلبوا هويّاتهن، إلا أنهم كانوا يقولون: “من حلب يا عيني، أين كنتم تشبّحون في هذه الليالي؟” ويقول ثوريٌّ آخر: “يبدو أنكم انتهيتم من التشبيح وستذهبون إلى حفلة شواء…”
بعد مرور حوالي 9 ساعات وصلنا حلب، كانت الساعة قد قاربت منتصف الليل، وتماما كما قال الثوري فأهالي حلب كانوا حينها يتنزهون على أرصفة الأوتوستراد، ويقيمون حفلات الشواء.
هبة العبود (24 عاماً) تعمل في المجال الإذاعي والإخباري في راديو فريش. تركت دراسة الأدب العربي في جامعة دمشق قسم الآداب والعلوم الإنسانية بسبب الثورة.