انشقّ عمي فتركت الجامعة
قبل عامين، ومثل أيّ طالب جامعي سوري كُنت أشارك في مسيرات مؤيدة للنظام رغماً عنّي. كانت عناصر تابعة لجهاز الأمن تجبرنا على الخروج من الجامعة في دمشق، وتظلّ تراقبنا حتى نصل إلى مكان التجمهر في حديقة تشرين التي كانت منتزها للعائلات والأطفال، ثم أصبحت منطقة مسيرات مؤيدة للنظام ومخيماً للنازحين. ومن بعدها لا بد من العودة إلى الجامعة حيث يدققون بأسماء من شارك بالمسيرات ومن تغيّب عنها. كنّا نعيش حياة ضياع وتشرّد، أمامنا المستقبل المجهول وخلفنا قساوة السنين الماضية.
في أحد الأيام كنت في طريقي إلى الجامعة، توقف الباص الذي كنت أستقله عند إشارة مرورية. فجأةً توقفت عن السمع، صوت الإنفجار كان أقوى من قدرتي على سماعه، ربما لقربنا من مكان وقوعه. حوالي 300 متر، كانت تفصلني عن الموت، إنفجار نجم عن سيارتين ملغومتين أمام فرع الجمارك.
لم أرَ إلّا وميض الانفجار بأجزاء قليلة من الثانية. من قوة الضغط تشظى زجاج الباص.
كانت إصاباتنا أقل بكثير من طابور الناس الذين كانوا أمام مبنى السجل العدلي. رأيت الأشلاء والأطراف المبتورة، رأيت برك الدماء. سرفيس خط البرامكة، كان أغلب ركابه من طلاب الجامعة. رأيت السائق وهو يحترق فيه. ولم يكن فيه إلا الدماء دون أيّ مقعد، لأنه في موعد الانفجار كان بين السيارتين. عناصر من الأمن العسكري كانوا قبلها بقليل، يتمازحون برش المياه، لم يبقَ منهم إلا الدماء والأشلاء.
نزلنا من الباص، كنت مذهولة لما حدث، لم أستطع التكلم. أحسست نفسي في حلم بشع أو بكابوس لم أستطع الاستيقاظ منه. فاجأني الحضور السريع للمراسلين التلفزيونيين، لتصوير الأشلاء التي كانت لمواطنين شهدوا انفجار السيارتين الملغمتين أمام فرع الجمارك. أغلب الظن أن النظام هو من قام بعملية التفجير.
وفي اليوم ذاته عندما عدت إلى البيت، سمعت صوت انفجار وبعدها صوت رصاص. عمي كان شرطياً في مخفر منطقة السيدة زينب، قلقنا عليه، خاصة بعد الحادثة التي رويتها لزوجة عمي. حاولنا الاتصال به مراراً وتكراراً، كان هاتفه خارج التغطية. بعد فترة اتصل بزوجته وقال لها: “سآتي بعد قليل”.
عندما أتى روى ما حدث معه قائلاً: “هوجمنا من قبل مسلحين بسيارات نقل صغيرة. استنفر عناصر المخفر، بدأوا يصرخون على مكبرات الصوت، ويدعوننا للانشقاق. طلبنا المؤازرة وظل الرصاص متبادلاً بيننا حتى وصلت المؤازرة”. وأضاف: “قال لي أحد الزملاء هذه فرصتنا للانشقاق، ولكن كنت خائفاً ولم أستجب له أو أدعه يذهب. أما الانفجار فكان لغماً أمام المخفر ومرّ على سلام”.
وفي صباح اليوم التالي، سلكت نفس الطريق التي حدثت فيها الاشتباكات والانفجارات. كانت الحياة طبيعية وكأنّ شيئاً لم يحدث. وبعدها كثرت المظاهرات في منطقة السيدة زينب، وازداد معدل الجريمة فيها. فاشتدّ الخطر على عميّ الشرطي الذي كنت أقطن عنده، فما كان منه إلا أن قررّ الانشقاق عن النظام، بعد تفكير كثير ومداولات سرية بينه وبين زوجته، خوفاً من الجيران.
في يوم جمعة انطلقت مظاهرة من جامع في الحارة، وسرعان ما فرّقوها بالقوة، ولاحقوا الرجال لبيوتهم وضربوهم بالعصي المطاطية. لم يكن في بيت جيراننا سوى الأم وبناتها، خلعوا الباب واقتحموا البيت. ارتفعت أصوات النساء في المنزل وتدخل الجيران ثم خرجوا وما من أحد استطاع التكلم معهم. خفت كثيراً من هذا المشهد الوحشي. لماذا أصبحنا مستباحين؟
في سوريا وصلنا ذروة الجشع. بدأت بحمل سكين معي إلى الجامعة، أذكر يوم تعرض لي رجل مخمور في طريق عودتي إلى المنزل، فما كان بوسعي إلا طعنه بيده ولكنه ابتعد دون أن يتكلم وكأنه لم يشعر بالألم.
أخذ عمي قراره، ترك منزله كما هو خشيةً عليَّ وعلى أولاده وعلى نفسه، خوفا من هذا الواقع الذي نعيش فيه، فحياتنا هناك أو في أيِّ مكان في سوريا حياة يهددها الموت. انشقّ عمّي فتركت الجامعة وتركنا العاصمة.
هبة العبود (24 عاماً) تعمل في المجال الإذاعي والإخباري في راديو فريش. تركت دراسة الأدب العربي في جامعة دمشق قسم الآداب والعلوم الإنسانية بسبب الثورة.
بإمكانكم قراءة هذا المقال باللغة الإنكليزية على الرابط التالي