الوضع تحت السيطرة
لم يكن يوم الثامن من شهر آب/أغسطس الماضي يوماً عابراً بالنسبة لسكان اللاذقية. صحيح أن بداية النهار كانت عادية جداً، شكوى وتذمّر لا ينتهيان، من قلّة المياه وندرة الكهرباء وغلاء الأسعار. لكن الوضع تحت السيطرة كما تقول السلطات دائما، بالتأكيد المقصود بتحت السيطرة هو وضع الشعب وليس وضع الخدمات.
كنت عائدة عند الساعة التاسعة مساءً من عمل طارئ في منطقة الشاطئ الازرق. وصلت إلى مدخل البناء الذي اقطنه، ليرن هاتفي الجوال. صديقتي تخبرني أن احضر حالاً إلى دوار الزراعة، أحد أشهر معاقل العلويين في المدينة. مؤكدة أن الموضوع هام، وعلي التواجد بأي ثمن، فجميعنا يجب ان نكون يداً واحدة في ما يحصل.
لا أحب الذهاب كثيرا الى حي الزراعة الذي تسكنه غالبية علوية مؤيدة للنظام السوري. نحن سكان المناطق المعارضة نعتبره مجرد شيكاغو مصغرة. لا مجال لوجود القانون فيها، فشبيحة الأسد (تسمية تطلق على الموالين للنظام الحاكم) هناك مستعدون لفعل أي شيء يخدم غاياتهم وأهواءهم، دون محاسبة أو مساءلة. لم لا، فهم فوق جميع القوانين حتى قانون السير، وكم من شرطي مرور ضربوه بشراسة أمام الناس دون حول أو قوة، لمجرد انه فكّر بإعطاء إشارة تخفيف سرعة لسيارة ذات زجاج أسود داكن، “مفيمة باللهجة العامية”. ناهيك عن حوادث أخرى لا مجال لذكرها، لأنها بكل بساطة لا تعدّ ولا تحصى.
غامرت بأخذ سيارة أجرة، رغم تحذيرات والدتي المتكررة بعدم اللجوء إليها كوسيلة نقل، طبعا ليس بسبب غلاء تسعيرتها، إنما خوفاً من أن نصبح ضحايا الخطف المنتشر في لاذقيتنا، والذي يطلق سراح ضحاياه مقابل فدية مالية تصل إلى ملايين الليرات، وهو مبلغ لا قدرة لنا عليه. ناهيك عن الخوف الذي تعيشه الضحية، التي تتعرّض للقتل غالباً في حال لم يتم تسليم المبلغ، السلطات لا حول لها ولا قوة أمام هذا المشهد السريالي. وقد بات واضحاً تورّط الأجهزة الأمنية فيه، والتي تؤكد في كل المناسبات أن الوضع تحت السيطرة، والمقصود وضع الشعب وليس وضع الأمن والأمان الذي يمنّون علينا به.
كان الطريق يزداد ازدحاما كلما اقتربنا من دوار الزراعة. اضطر السائق أن ينسحب من مهمة إيصالي، مؤكداً أن الأمر يحتاج ساعات طويلة يمكن ان اقطعها سيرا على الأقدام بدقائق معدودة، وبالفعل سمعت توجيهاته ووجدت نفسي اقترب من الزحام شيئاً فشيئاً، بدأت بسماع هتافات تعلو، وحناجر تصدح، يا الله… هل هي القيامة العلوية المنشودة؟
بدأ قلبي يخفق، ذكريات سرعان ما عصفت في ذهني الذي عاد سريعا إلى حي الصليبة في حزيران/يونيو 2012، حينها كانت آخر مشاركة لي في المظاهرات المطالبة بإسقاط النظام السوري. انتظرت خروج المصلّين من جامع المشاطي، وعند أول تكبير بدأنا بالتجمع، رفعنا علم الثورة، هتفنا ضد بشار وجيشه، كنا لا نعرف بعضنا البعض، لكن التناغم والانسجام بيننا حصل بأعلى مستوياته، تم التصوير للنشر على اليوتيوب ووسائل الإعلام. جاء عناصر الأمن وبدؤوا بضرب الرصاص والغاز المسيل للدموع، ركضنا هاربين باتجاه الابنية، وصعدنا إلى الطوابق خوفا من الاعتقال، فتحت الابواب لاستقبالنا وتأمين الملاذ لنا، قمنا بغسل وجوهنا وانتظار كسر حظر التجول كي نعود إلى منازلنا. كنت أبحث عن هذه اللحظات هنا، ازداد خفقان قلبي كلما اقتربت من التجمع، لكن لحظة، هناك شيء غريب يحصل، لا يشبه ما كان يدور في ذهني، بل على العكس، يبدو الأمر…تحت السيطرة.
استغربت وقوف رجال الأمن في مواقع متفرقة محيطة بالمظاهرة، كانوا يضحكون ويشربون السجائر، لا رصاص أو غاز مسيل للدموع، لا مطاردات وسباقات جري طويل تحصل بينهم وبين المتظاهرين، على العكس، و كأن مهمتهم تأمين المكان ليتظاهر المتجمعون براحتهم. “من لا يشارك… لا دين له” نعم كانوا يقولونها. “الشعب يريد إعدام سليمان” في إشارة منهم إلى سليمان الأسد الذي قتل أحد عمداء الجيش السوري لأنه تجرّأ وتجاوز سيارته.
اقتربت أكثر من التظاهرة، وبدأت بالانخراط بين صفوفها، سألت أحدهم: “ما التالي؟” قال لي: “الناس لن تذهب إلى البيت إن لم يتم إعدام سليمان، ولو كان الثمن حياتهم”. شعرت بالحماس، قلت في نفسي: كل الأمور تبدأ هكذا، في درعا بدأت هكذا، ليتغير بعدها وجه سوريا بالكامل. هل يمكن أن يفعلها العلويون ويكونوا بيضة القبان التي ستسهم في خلاصنا بعد أن أنهكتنا وأنهكتهم الحرب، ربما.
كان هناك بعض الحضور ممن لم يكن راضياً عما يحصل في الحي، قيل لي بصوت خافت أن الشارع العلوي منقسم بالنسبة لهذه المظاهرة. علويو جبلة والقرداحة غير راضين عما يقوم به علويو بسنادا مسقط رأس العميد المقتول ويساندهم بقوّة علويو دمسرخو، الفئة الأقل حظوة لدى النظام من ناحية الامتيازات. “الله يدب الخلاف” هذا كان تعليقي الوحيد الذي قلته بيني وبين نفسي، فالمهم بالنسبة لي أن تستمر المظاهرة وتتحول لاعتصام يكبر ويكبر لترفض المطالب من قبل النظام، ويصر المعتصمون بعدها على رفع شعار إسقاط من جر الطائفة إلى حرب أحرقت الأخضر واليابس وأحرقتهم معهما، لدرجة جاءت معها الصحوة التي بدأت تتشكل هنا.
انها العاشرة والنصف مساء، وما زلنا في أماكننا، يأتينا أحد ضباط الأمن ويقول: حان وقت الذهاب الى البيت، هذا يكفي اليوم. الآن ستحرق الأرض تحت أقدام هذا الضابط، سيرفضون، سيصرّون على بقائهم بالمكان، أمّا نحن أو انتم. ليبدأ العراك والمطاردات السوبرمانية، وتعود الأيام الخوالي التي اعتدناها. لكن للأسف، كل هذا لم يحصل، دقائق معدودة وكانت الساحة خالية تماماً ليذهب كل حي إلى حاله، دون نسيان ترديد شعار “بالروح بالدم نفديك يا بشار” الذي قضى على حلم ليلة صيفية استمر لمدة ساعة ونصف الساعة بالنسبة لي. وعند سؤالي في اليوم التالي عن مصير المعتصمين، وهل تجمعوا مرة أخرى في المكان نفسه، كان الجواب حاضراً بأن” الوضع تحت السيطرة ، ولم يحضر أحد”.
بانة ديب من مواليد اللاذقية حيث تعيش حتى الآن. خريجة جامعة دمشق. تطمح للعمل بمشروع تربوي هادف يؤسس لبناء جيل سوري متعلم بشكل حقيقي.
بإمكانكم قراءة هذا المقال باللغة الإنكليزية على الرابط التالي