ذكرى نكبتي مع عائلتي
24 كانون الثاني/ يناير 2013، كان لا بد لنا من الرحيل، بعد الاعتقالات المتتالية لأفراد عائلتي، ومراقبة الشبيحة (تسمية تطلق على أنصار النظام والمتعاونين معه) لنا وملاحقتنا وكتابة التقارير ضدنا. كان حينها قراراً صائباً اتخذه زوجي بعد اعتقاله لمدة لا تتجاوز اليومين. لكن ماعاناه في هذين اليومين من ذلّ ومهانة كان يضاهي حياة الاستقرار التي كنا نعيشها. وما زاد الطين بلة كما يقال، أن إحدى جاراتنا قد تزوجت شبيحا وأتت به ليسكن في بنايتنا. ويشاع انه يقف خلف اعتقال زوجي وأولادي.
إذاً كان لا بد من الرحيل وبسرعة، قبل أن يقع أحدنا بين أيديهم ثانية. وكغيرنا كانت وجهتنا تركيا، والريحانية تحديداً. فهي المكان الأقرب لإدلبنا حبيبة قلبنا. يمكننا في الريحانية أن نتنفس هواء إدلب، وننعم بالقرب منها على أمل العودة القريبة. تركنا قلبنا وذكرياتنا وروحنا هناك. حملنا معنا حنيناً موجعاً وأجساداً بلا روح. ومضينا في رحلة عذاب وشقاء، لنبدأ حياة جديدة لا ندري ماذا يخبئ لنا القدر فيها.
وكغيرنا ممن يذهب إلى المجهول، كان علينا أن نكون ضيوفاً عند أقرب أناس لنا هناك، والذين سبقونا بالنزوح. 15 يوماً قضيناها ونحن نتنقل من منزل مضيف إلى منزل مضيف آخر، إلى أن استأجرنا منزلاً يخصنا. كانت حركة النزوح من الأرياف كبيرة آنذاك، وكانت أجرة البيوت خيالية. وكان طمع الأتراك قد بلغ ذروته. كانوا يأخذون ثلاثة أضعاف أجر المنزل ولستة أشهر مقدماً. ومن ثم كان علينا أن نشتري الحد الأدنى من مستلزمات هذا المنزل.
مضت بنا الشهور الأولى دون العثور على عمل، مع أجور خيالية ومعيشة غالية جداً، إضافة إلى نفسية محطمة، سيطر عليها الاكتئاب والإحباط، إلى أن وجد زوجي عملا براتب زهيد جداً، لايكفي لدفع ايجار المنزل. ولكن لا بأس فقد تحسنت حالته النفسية بخروجه للعمل. مضت بنا الأيام هكذا، والوضع من سيء لأسوأ فقد أصبحنا غرباء.
عانيت الكثير من حالات اكتئاب، كانت تحاول أن تتغلغل بكياني. ولكنني ولله الحمد كنت أقوى منها. وهكذا إلى أن عثرت على عمل، كان عملي طوق نجاة لي مما كنت أعانيه من فراغ ويأس وإحباط. هناك في العمل أصبح لي عائلة وأصدقاء وصديقات، مروا جميعهم بما مررت به. وكان من الرائع أن نجتمع في جو من الألفة والمحبة.
صديقات عملي هذا كن لي بمثابة الأهل. كنا نجلس معا نستذكر ما كان لنا هناك. كنا نبكي معاً ونشكو معاً ثم نخفف عن بعضنا معاً. نحاول أن ندخل السرور لجلساتنا علّنا ننسى تلك الهموم التي أثقلت كاهلنا. مريم، رجاء، عهود، عبير، حنان، أسماء، منى، أمينة، حنان، نور، رهف، بثينة، زهور، لن أنساكن ما حييت، شاركتموني أوجاع غربتي القاسية. أصبحتن أهلي وأخواتي ورفيقاتي كنتن ملاذي الذي ألجأ إليه حينما تضيق دنياي بي. أتمنى لكن السعادة وراحة البال.
ماكنا نعرف بعضنا قبلاً، كانت كل واحدة منا من بلد. حلب، إدلب، دارة عزة، حمص، الرقة، تفتناز، جبل الزاوية، بانياس، معرة النعمان، بنش. جمعتنا هموم الغربة والنزوح والضياع.
منهن زوجة الضابط المنشق، وزوجة المعتقل، زوجة الشهيد، زوجة المصاب، زوجة المريض، زوجة الباحث عن العمل. همومنا مشتركة ومصابنا جلل وهدفنا واحد. أحاديثنا كانت عن ضياع مستقبل أبنائنا، عن تأمين إيجار المنزل، عن محاولة البحث عن مورد رزق نعيش به الحدود الدنيا لمتطلبات الحياة.
أصبحت بيوتنا هنا مضافة لكل لكل نازح جديد ريثما يعثر على بيت يناسب وضعه. لكل مهاجر إلى أوروبا، لكل عروس ستسافر عند زوجها، لكل من يبحث عن عمل، ها نحن نودع أناساً ونستقبل غيرهم، ولسان حالنا يقول قد مررنا بنفس الظروف وكما قال أجدادنا “الناس لبعضها”.
أكثر من عامين ونحن بالغربة وأمل العودة لم يفارقنا. كل يوم يمضي نتأمل باليوم الذي يليه. طائرات الحقد والكره دمرت كل شيء في بلدي. ما عاد لنا هناك بيت نسكنه، ولكنها لم تدمر حلم العودة الذي يراودنا ولاينفك ينخر في قلوبنا.
حبيبتي، مدينتي، إدلب، أحبك، وسأعود إليك. رغم كل شيء لن أهاجر، لن تغريني أوروبا ولا العالم بأسره. أرضك، سماءك، هواءك زيتونك، وقلبي الذي أودعته عندك، روحي التي ترفرف حولك، كل شيء فيك يناديني ويجذبني إليك. انتظرينا فنحن عائدون، عائدون، عائدون.
وكما قال الشاعر جهاد أحمد نعسان آغا أقول وأردّد :
حملت حبك ملء القلب عاطفة
كعاشق بحبيب الروح قد وثقا
فيا ملاعب أيام الصبا رحلت
ويا حشاشة قلب ذاب أو سحقا
خذي فؤادي الذي مازلت منيته
ولم تزالي له الالهام والأرقا
وأرجعي زمن اللقيا بروعته
وجددي ذكريات أصبحت مزقا.
كفاح قباني (48 عاماً) من مدينة إدلب، أم لثلاثة أبناء وجدّة لطفلة، نشطت منذ بداية الحراك المدني عبر التظاهرات والطبخ للثوار ومساعدتهم، إضافة لتحميل أفلام المظاهرات المصورة ونشرها مشاركتها عبر شبكة الأنترنت. اعتقلت قوات النظم ابنها الأكبر الذي تعرّض لتعذيب شديد. تعيش كفاح قباني حالياً في جنوب تركيا مع عائلتها.