شرّدوه طفلاً وقتلوه كهلاً
زياد السيد عيسى، مواليد العام 1958. هو ابن عم والدي، عاش في كنف عائلة كبيرة تضم الأعمام وأولاد الأعمام. استشهد كما معظمهم في ثورة الكرامة خلال السنوات الأربع الماضية.
بدأت رحلة الشهيد زياد السيد عيسى أواخر العام 1979، هي رحلة شقاء وغربة ومعاناة. في ذلك اليوم من ذلك العام هاجمت مجموعات كبيرة من الأمن منطقة أرض الحارة، في إدلب، قتلت اثنين من أبناء العائلة، حكمت وياسر رحمهما الله. لم تكتفِ المجموعات الأمنية بذلك بل داهم عناصرها منزل العائلة الكبير بما فيه من مقيمين، جمعوا هويّات الشباب للحؤول دون هروبهم. وفي اليوم التالي كان على الجميع الذهاب إلى مبنى الأمن لاستلام هوياتهم.
كان زياد أصغر أفراد عائلته. خاف حينذاك ولم يذهب مع الذاهبين. قرر الهرب نحو بغداد، في رحلة قطع أغلبها سيراً على الأقدام. بعدما أمضى أربع سنوات في بغداد، غادر إلى الأردن. عمل هناك كسائق شاحنة وتزوج من ابنة عائلة كريمة مهجّرة قسراً من حماة. لم تكن ظروفه المادية جيّدة، فترك زوجته وأطفاله وهاجر إلى هولندا طالبا للجوء. عاش هناك مع مجموعة من مهاجري أهل بلده منتظراً الحصول على الإقامة. ولتكتمل فصول المأساة أصدر الرئيس السوري آنذاك حافظ الاسد عفواً رئاسياً عن الهاربين من سوريا. فقرر زياد العودة، لم تفلح نصائح الجميع بثنيه عن قراره، وان النظام في سوريا لا يؤمن جانبه ولا عهود أو مواثيق لديه. لكنه أصرّ على العودة فقد تعب من الترحال. ظنّ أنّه سيعود لحضن والديه وعزهما.
عاد إلى حضن الوطن ليتلقّاه رجال الأمن في المطار، مرحبين به على طريقتهم. عزموه على “فنجان قهوة” عندهم في فرع الأمن السياسي. فنجان القهوة هذا طال، وطالت مدته حتى وصلت إلى خمسة أشهر أمضاها زياد في فرع الأمن السياسي ثم نحو سنتين في سجن تدمر. كل سجون النظام مرعبة، وعار على الإنسانية، لكن سجن تدمر السّيّء السمعة يجعلك ترتعد خوفاً وإشفاقاً على قاطنيه من شرفاء الوطن، وحقداً واشمئزازاً من أصحابه وسجانيه.
بأعجوبة خرج زياد، هو نفسه لم يعرف لماذا أخلي سبيله، علما أنه لم يصدر بحقه أي حكم. عندما كنا نسأله كيف أطلق سراحه كان يجيب بكل براءة: لم يثبت عليّ شيء، ولم يعودوا بحاجة اليّ. وعاد إلى إدلب كسيراً هزيلاً، كما يعود معظم سجناء النظام إن عادوا! كانت عائلة زياد قد سبقته إلى إدلب فور سماعها خبر عودته. أذكر أنه أعاد فتح متجر والده القديم للسمانة، كان يبيع الزيتون والزيت والأجبان، وكل ما تنتجه مدينة إدلب الزراعية.، لكن زياد لم يعد كما كان، لم يعد استيعابه للأرقام والحسابات كما كان. كان يستعين بوالدي المتقاعد رحمه الله في شؤون الحسابات والصادر والوارد. كان والدي يعود من المحل شاردا حزينا على ابن عمه الذي أصابه الضياع من اّثار السجن. كان والدي يقول لنا: أخاف عليه من أخطائه في الحساب، وأخاف منه فربما يخطّئني بحسن نيّة منه.
توفي والدي بعدها واستمر زياد يعارك الحياة وتعاركه. إلى أن قامت ثورة الكرامة في سوريا عام 2011. كان زياد قد تجاوز الخمسين من عمره وانطلق مع انطلاقتها. كنت أراه في كل مظاهرة، لم يتغيّب عن واحدة منها. كانت النساء في البداية يخرجن في المظاهرات على خجل ووجل وخوف، وأغلب الأحيان يخرجن في سياراتهنّ ويمشين معها، وكنت منهن. في نهاية المظاهرات وبعد سير المتظاهرين لساعات وساعات تحت الشمس الحارقة، قاطعين فيها المدينة من شرقها إلى غربها ومن جنوبها إلى شمالها، كنت أراه منهكاً متعباً، كنا نطلب منه الصعود إلى سيارتنا ومتابعة المظاهرة. ما زلت أذكر صوت لهاثه عندما يجلس بجانبي وطلبه الدائم أنزلوني لأتابع المشي معهم.
بدأت فترة الملاحقة المرعبة لأهالي المدينة، وأفراد عائلتنا بشكل أكبر. بدأنا نرى مظاهر تسلح خفيف ترافق المظاهرات. لم أعد أراه، غادر المدينة إلى الريف مبتعدا عن عيون الأمن والتحق بالثوار. نزحت أنا إلى تركيا. بعد سنة تقريبا رأيته في مدينة الريحانية، جاء بأسرته ثم عاد إلى مكانه الطبيعي، كما أخبرني “مع الثوار”. بعد سنة تقريبا من لقائنا، استشهد ابنه البكر محمد الذي جاء من دبي ليشارك بالثورة. احتسبه زياد شهيدا عند ربه وتابع مسيرته. بتاريخ 25 آذار/مارس 2015، جاءنا خبر استشهاده برصاص قناص عند حاجز القلعة في إدلب. رحل زياد ورحل ابنه محمد رحمهما الله. ولدان لزياد بقيا على قيد الحياة حتى كتابة هذه السطور، يتابعان مسيرته في الكفاح ضد الظلم. إنها عظمة الثورة السورية، ثورتنا.