حين تصبح الحرب عملاً
في ظل الأزمة الاقتصادية، يمارس السوريون عدة مهن فرضتها الحرب.
كرم منصور
(دمشق، سوريا) ─ يخرج مهند (38 عاماً) من بيته في جرمانا جنوب دمشق الساعة السادسة صباح كل يوم، مرتدياً بزته العسكرية الممهورة بصورة الرئيس بشار الأسد وأسفلها عبارة “قوات الدفاع الوطني”، القوات العسكرية غير الرسمية التي شكلتها الحكومة، والتي كانت تعرف سابقاً باسم “اللجان الشعبية”. يتجه مهند حاملاً بندقيته إلى جبهة المليحة في الغوطة الشرقية، المشتعلة منذ ما يقارب الثلاثة أشهر.
مهند، بحسب ما يروي، ليس متعصباً لأي من طرفي الصراع في سوريا. كان يعمل سائق سيارة أجرة وخسرها بعد إصابتها بقذيفة هاون. عند سؤاله عن سبب انضمامه إلى “الدفاع الوطني”، يجيب بأسئلة أخرى: “من يطعم أسرتي؟ من يملأ جوف أطفالي الثلاثة بعدما خسرت عملي وسيارتي؟ لم أجد إلا التطوع في “اللجان الشعبية”، أحصل من خلالها على مرتب 25 ألف ليرة (حوالي 150 دولار أميركي) شهرياً”.
ويضيف ضاحكاً: “أحياناً يحالفني الحظ بقطع غيار”، في إشارة إلى المسروقات التي يأتي بها من المناطق التي يقتحمها مع زملائه.
بينما يشترك العديد في القتال على طرفي النزاع في سوريا لأسباب عقائدية، أو مدفوعين بشعور أنهم يدافعون عن مجتمعاتهم، هناك من يقاتل في صفوف النظام أو المعارضة سعياً وراء راتب شهري. في ظل أزمة معيشية خانقة، برزت أيضاُ عدة مهن في ظل اقتصاد الحرب، مثل بيع المولدات والشموع، نتيجة انقطاع التيار الكهربائي المستمر، وبيع أجهزة الإنذار واسطوانات إطفاء الحريق وحقائب الإسعافات الأولية، بالإضافة إلى المتاجرة بالعملات الأجنبية بسبب تقلب سعر صرف الليرة السورية.
يقول مهند: “كثيراً ما يشتمنا مقاتلو المعارضة المتحصنون في الأبنية المقابلة. يقولون إننا مرتزقة أتينا إلى هنا من أجل المال فقط بينما هم يدافعون عن دينهم وديارهم… أنا أحارب لأنني أريد إطعام أولادي الصغار، لا أكثر”.
يفضل مهند البقاء في “قوات الدفاع الوطني” ويرفض الانضمام للجيش لأن الخدمة في هذه القوات ليست إلزامية، ويعلق قائلاً: “في كثير من الأحيان عندما أرى أن هناك خطراً يهدد حياتي أعود بسلاحي للبيت وهذا ما لا يمكنك القيام به لو أنك جندي في الجيش النظامي”.
على الطرف الآخر من الصراع، يمر محمد (19 عاماً) بظروف مماثلة. كان محمد يعمل في معمل حلويات في العاصمة، وحالياً يقاتل في صفوف “جيش الإسلام” في إحدى بلدات الغوطة الشرقية. يقول: “دخلت قبل عيد الأضحى الماضي إلى بلدتي زملكا قادماً من دمشق، على أمل أن أمضي أيام العيد بين أهلي ثم أعود، لكن ما أن انتهى العيد حتى أغلقت جميع الطرقات وفرض على كامل الغوطة حصار خانق. اضطررت إلى التخلي عن مهنتي والانضمام إلى “جيش الإسلام” لتأمين معيشتي”.
ويختم محمد حديثه: “يعطي “لواء الإسلام” راتب مقداره 12 ألف ليرة للمقاتل العازب (حوالي 73 دولار) و15 ألف (حوالي 91 دولار) للمتزوج مع تأمين وجبتين من الطعام يومياً، لذلك أنا الآن أقاتل في صفوفه”.
الحرب لم تدفع السوريين إلى امتهان القتال فقط. رائد (23 عاماً) مسعف في “الهلال الأحمر” فرع دمشق، درس الفنون الجميلة، منذ بداية الأحداث شارك في العديد من المظاهرات السلمية، ومع بدء القتال تطوع في “الهلال الأحمر”، ويتقاضى شهرياً 18 ألف ليرة (حوالي 109 دولار).
يعلق رائد ضاحكاً: “ما إن تخرجت حتى كانت الحياة الفنية في البلد معطّلة بسبب الحرب، ولم يكن أمامي سوى إسعاف الجرحى كمهنة بسبب خبرتي الطويلة بها على عكس باقي الأعمال الأخرى”.
ويقارن رائد بين مهنة الإسعاف والفنون التي درسها طيلة حياته الجامعية بسخرية، قائلاً: “بدلاً من أن أتعامل مع كل الألوان أصبح لون الدم الأحمر يطغى على كل شيء”.
يتعرض المسعفون لمخاطر شديدة، إذ كثيراً ما تقع الفرق الطبية تحت رصاص القنص أثناء العمل في مناطق الاشتباك، وقتل ما لا يقل عن 36 متطوعاً من “الهلال الأحمر” السوري، وسبعة متطوعين من “الهلال الأحمر” الفلسطيني، بحسب بيان أصدرته “الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر“.
ويشير تقرير أصدرته منظمة “أطباء من أجل حقوق الإنسان” إلى أن عدد العاملين في الحقل الطبي الذين قتلوا منذ بداية الحرب وحتى 30 نيسان/ أبريل 2014 بلغ 468. واتهمت المنظمة الدولية، التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها، كلاً من النظام والمعارضة باستهداف الطواقم الطبية بشكل متعمد.
العمل الإعلامي أيضاً شهد تغيراً بسبب الحرب. من المجموعات الإعلامية التطوعية التي تشكلت منذ العام 2011، حظي بعض الناشطين الإعلاميين بفرصة الاحتراف والعمل مع وسائل إعلام عربية ودولية لقاء أجر.
علي (27 عاماً) من سكان كفرسوسة في ريف دمشق، الذي كان يمتلك متجراً لصيانة المفروشات، بات يعرف الآن بـ”أبو منذر الإعلامي”. اشترك علي في المظاهرات منذ انطلاقها في دمشق وريفها في العام 2011، ثم بدأ يصورها.
يقول علي عن تجربته: “كان سلاحي الكاميرا، فهي التي أوصلت صوتنا إلى العالم. كنت أقوم بنقل الأخبار والأحداث بشكل تطوعي، لم أتقاض أي أجر. كان لي هدف أن يسمع صوتنا العالم بأسره، صوت أولئك الغاضبين الذين لا يملكون القدرة ولا الوسيلة من أجل التعبير، ونجحنا بذلك رغم قمع النظام”.
يقول “أبو منذر الإعلامي” إنه بالرغم من أنه لم يدرس الإعلام، إلا أن خضوعه لعدد من الدورات الصحفية، إضافة إلى الخبرة اليومية على الأرض، جعل منه صحفياً احترافياً. ويضيف: “اكتسبت خبرة في التعامل مع الحواسيب والأجهزة الرقمية، وها أنا أعمل صحفياً لعدد من الوسائل الإعلامية في الخارج التي تعطي رواتبها بالدولار مما يوفر لي عيشة كريمة بسبب فرق العملة”.