كانت “مرعبة” قبل ثورة الكرامة صورة “الرئيس” في سوريا “وطنية” في الماضي و “خائنة” اليوم
أشار أحد الشبان إلى حاوية القمامة الخضراء مبتسماً وقائلاً: “هذا منزل بشار الخائن”، هو بالتأكيد يقصد الرئيس بشار الأسد، ووضع صورته على الحاوية للإساءة لشخصية كان أغلب السوريين لا يجرؤون على ذكرها بسوء أو حتى نقدها علناً دون خوف من العقاب الأمني والقانوني. بات المكان محرراً من “حكم” الأسد حيث مزق عدد كبير من المتظاهرين كافة الصور التي وضعت سابقاً من قبل المؤيدين والبعثيين على الدوائر الحكومية أو مقر حزب البعث، ويقع المكان في بلدة كبيرة قريبة من مدينة ادلب (شمال سوريا). في شوارع البلدة وعلى جدار جامعها الكبير كتبت عبارات تدعو لإسقاط النظام وأخرى لإسقاط الرئيس بشار الأسد وحتى لإعدامه أيضاً. وفي ساحة قريبة من الجامع حيث يتجمع يومياً مئات الشبان المطالبين بالحرية كتبت ذات العبارات المنددة بحكم السلطة الجائر والظالم. اقترب منا شاب صغير يكيل الشتائم للرئيس وكأنه يردد أغنية حفظها غيباً.
على طرف من أطراف الساحة التي أطلق عليها الثوار في البلدة “ساحة الحرية” كانت الجلسة مع عدد من الشبان من أعمار مختلفة قال أحدهم: “عندما بدأت المظاهرات كانت الشعارات خجولة ومرتبكة وخائفة إذا اردت، ولم نكن نتخيل أبداً أن نصرخ بأعلى صوتنا بأن الشعب يريد إعدام الرئيس. ولكن هذا الشعار جاء نتيجة المعاملة الوحشية لقوات الجيش والأمن والشبيحة معنا”. ويستطرد الشاب قائلاً بأنه بدأ مع رفاقه بتمزيق صور بشار في ثالث مظاهرة لهم. وقد كانت هناك صورة كبيرة على الشارع الرئيس في البلدة وبعد الهجوم عليها عملت البلدية على إزالتها.
الحديث عن الرئيس عند هؤلاء الشبان بدا مثيراً وخصوصاً أنهم نزعوا عنه الشرعية في حديثهم وباتت شرعية ثورتهم هي الطاغية ويتأكدون بأن لا صوت يعلو فوق صوتهم. بائع الكعك قطع حديثنا وهو ينادي “كعك الحرية يا شباب يلي ع بالو”، وسيارة كانت مسرعة وصوت الفنان سميح شقير يخرج منها في أغنيته الشهيرة التي رددها الثوار مراراً “يا حيف”. تابع شاب آخر الحديث ذاته وشرح لنا حكايته مع الصورة، صورة الرئيس، ابتسم وقال: “أثناء خدمتي العسكرية كنت أمازح أحد الشبان معي في الخدمة، فأقدم على ضربي من بعيد بالحذاء العسكري وعندما هربت من الضربة جاء الحذاء على صورة الرئيس، وكانت هذه الحادثة أمام عدد كبير من زملاء الخدمة. في اليوم التالي جائت دورية أمنية وأخذت زميلي، وبقي مسجوناً نحو ستة أشهر بجرم اهانة الرئيس، وأنا أقسم عنه بأنه لم يكن يقصد ذلك”.
قبل ثورة الكرامة أي قبل تاريخ 15 مارس/آذار كانت الصورة “مقدسة” ومخيفة في العرف الشعبي الذي أثر فيه التوجه الأمني على مدى عقود، ولكن بعد هذا التاريخ اختلف هذا العرف وكسرت النظرة المتعارف عليها في كيفية تعامل المواطن السوري مع صورة الرئيس “القائد”. لقد وضع المواطن السوري قبل الثورة صورة الرئيس في المدارس وفي غرف الدوائر الحكومية وفي البيوت وعلى عربات بيع الخضار وفي الأسواق والأفران وعلى السيارات العمومية والخاصة، وكذلك وضعها في الشوارع والأزقة وعلى الموبايل، وكل هذا لا يشير إلى الحب والاحترام. كثير من المراقبين يرون أن وضع الصورة في تلك الأماكن ربما جاء نتيجة حتمية لغياب القانون وعدم الشعور بالأمان، حيث يعتقد من يضع الصورة على أشياء تخصه بأنها تحميه وتجنبه خطر المخابرات والأمن وتبرر له مخالفة القانون، حتى أن أغلب اللصوص والمهربين والمرتشين كانوا يضعون على سياراتهم صور الأب والأبن وربما العائلة كلها، وخصوصاً تلك الصورة التي تجمع حافظ الأسد مع بشار وباسل وكتب تحتها “هكذا تنظر الأسود”.
في الجلسة التي جمعتنا في ساحة الحرية أشار شاب إلى تلك الصورة التي تناقلتها التلفزات ومواقع التواصل الاجتماعي وهي تظهر عدد من المؤيدين لبشار الأسد وهم يسجدون على صورته وقال الشاب : “ألا تحمل تلك الصورة الكثير من الذل والكفر في آن معاً، السجود لا يكون إلا لله، واعتقد أن من سجد لبشار هو فاقد العقل وللدين ايضاً”.
في طريق عودتنا إلى دمشق وبعد الحديث المطول عن “الصورة” كان لافت للنظر عدم وجود صورة الرئيس بشار الأسد على أي واسطة نقل على عكس ما كان سابقاً. حين سألنا أحد السائقين ممن نعرفهم أجاب: “في طريقنا إلى دمشق سنمر في بلدة تلبيسه وإذا ما شاهد أهل البلدة الصورة بالتأكيد سيحطمون زجاج السيارة، عدا عن أن الكثير من السائقين لا يفضلون وضع صورة شخص قاتل، فلا يوجد بلدة في ادلب أو حمص أو ريف دمشق إلا وقتل الجيش والأمن منها أحداً، فكيف تريد من السائقين أن يضعوا صورة من يعطي الأوامر”. بعد ذلك حلفّنا السائق أغلظ الإيمان أن ننسى ما قاله وأن لا نذكر إسمه وقال معلقاً : “لدي أولاد وأنتم تعرفون عاقبة كل من يتحدث هكذا”.
الصورة، أي صورة الرئيس بشار الأسد كانت في كل غرفة من غرف الدوائر الحكومية وكلما كبرت مهام الموظف الحكومي يعمل هو على وضع صورة أكبر في مكتبه، حتى يُظهر اخلاصه “للقيادة” ويعطي الإيحاء لأي مواطن يدخل إلى مكتبه بأنه قد عين في المكان بأمر من الرئيس وليس على أساس الكفاءة. عدد كبير من الموظفين الكبار في الدولة وضعوا صورهم مع الرئيس خلف مكاتبهم ، فيظهرون على الصورة وهم يسلمون عليه، وتلك الصورة تعطي الإيحاء بمدى العلاقة الطيبة لهذا الموظف مع “القائد”. وعادة تكون نبرة هذا الموظف عالية حين يتحدث مع الآخرين. الأمر ينطبق أيضاً على بعض أصحاب الشركات الخاصة الذين يضعون الصورة ذاتها طلباً للحماية من أية مخالفة يقومون بها.
لم تعد الصورة تعني شيئاً في بعض أحياء دمشق مثل القابون وبرزة والحجر الأسود والميدان، وكذلك في أغلب مدن وبلدات ريف دمشق، وايضاً في محافظات مثل حمص ودير الزور واللاذقية والحسكة ودرعا وادلب وغيرها. فالصورة تعني اليوم في أماكن التظاهر والاحتجاج تلك رمزاً للخيانة والقتل، وفي أماكن أخرى تعني صورة الرئيس صورة ذلك القائد “حامي” الرزق والعباد. أحد سائقي التاكسي في دمشق وهو من المؤيدين للنظام اشتكى من التعامل “الجلف” للمتظاهرين معه حين مر قربهم وكان قد علق على سيارته ما يقارب الأربع صور للرئيس: “هاجموني في الحجر الأسود ونزعوا الصور عن السيارة وبعض الشبان الصغار حاولوا ضربي ولكن الكبار منعوهم. إليس من حقي أن اضع الصورة التي أحب على سيارتي!”.
في مواقع التواصل الاجتماعي وخصوصاً الفيس بوك نجد صوراً للرئيس وقد عمل الشبان المعارضون من خلال برنامج “الفوتوشوب” على تشويهها، فبدا الرئيس فيها أصلعاً وفي بعضها يشبه الزعيم الألماني النازي هتلر، وبدا في صور أخرى خلف القضبان أو علق حبل المشنقة على رقبته. وعمل بعضهم على “مط” رقبته كثيراً كنوع من زيادة جرعة الإهانة.
سجن الآلاف من السوريين بسبب ما يوصف بـ”اهانة” الصورة والرئيس. كانت هذه الصورة “مرعبة” في وقت من الأوقات و”وطنية مقاومة” في أوقات أخرى، أما اليوم فالصورة “تداس” بالأقدام وتحرق ايضاً، ولم تعد “فخراً” لمن يحملها أو يضعها في بيته أو مكتبه. الصورة وصاحبها “اهتزت” وأصبحت في عرف “الثوار” خائنة بعدما تأكدوا حسب ما قال لنا عدد منهم بأن من يعطي الأوامر بالقتل وسحق حركات الاحتجاج في المدن والقرى السورية ليس إلا بشار الأسد ونظامه الذي لا يختلف عن “نظام” أبيه المسؤول عن إبادة جزء من مدينة حماة وسكانها في الثمانينيات من القرن الماضي.