خارج الحصار لأداء الامتحانات
بينما لا يزال الحصار الخانق يطبق على مناطق ريف دمشق، تمكن طلاب المرحلتين الإعدادية والثانوية من المغادرة لأداء الامتحانات.
(دمشق، سوريا) – تتحلق بعض الفتيات ليشاهدن ما اشترت نادية، طالبة الثانوية التجارية التي قدمت من كفربطنا المحاصرة في ريف دمشق الجنوبي. لا تفارق الضحكة وجهها وهي تحدث صديقاتها اللواتي أتين معها عن نزهاتهن وبمن التقين من أقربائهن.
“هنا أمكنني الاتصال بأخي في الخليج واستلام حوالة منه. سأشتري كل ما أريد ولن أحرم نفسي من شيء”، تقول ناديا فخورة بأخيها الذي شجعها على تدليل نفسها بعد قسوة عيش عانتها لأشهر.
خرج ما يقارب 390 طالباً وطالبة في البكالوريا، ونحو 1000 تلميذ وتلميذة في المرحلة الإعدادية من الغوطة الشرقية وبلدات جنوب دمشق التي تسيطر عليها المعارضة وتخضع للحصار لأداء الامتحانات الرسمية في مناطق تسيطر عليها الحكومة في العاصمة وضواحيها في حزيران/ يونيو. وبحسب تصريحات إعلامية صدرت عن مديرية التربية في دمشق، توزع الطلاب على كل من معسكر الدوير والغزلانية وجرمانا، فيما خرج أكثر من 400 طالب وطالبة فلسطينيين تحت إشراف منظمة “الأمم المتحدة” للاجئين الفلسطينيين “الأونروا” من مخيم اليرموك إلى مخيم فلسطين القريب، الذي تسيطر القوات الحكومية على جزء منه.
حصل هؤلاء الطلاب على إذن المغادرة من الإدارة العامة لـ”أمن الدولة” في دمشق، إثر مبادرة أطلقتها طواقم المدارس الحكومية التي لا زالت تمارس عملها في المناطق المحاصرة، وبوساطة من شعبة “حزب البعث” في الغوطة، ومنظمة “الأونروا” للاجئين الفلسطينيين في منطقة جنوب دمشق.
وعلى رغم الجهد الذي تتطلبه الامتحانات، فقد تحولت في عيون الطلاب إلى فرصة للاستراحة من قسوة الحصار.
في مدرسة “زاهي السمين” في جرمانا، احتل الذكور الطوابق السفلية، بينما أقامت الإناث مع مرافقتهن إن وجدنَ، حيث سمح لهن باصطحاب الأم أو الأخت، وخضع الجميع في الطريق إلى دمشق لتدقيق في بطاقاتهم الشخصية.
قدمت شعبة “الهلال الأحمر” في جرمانا مستلزمات إقامة الطلاب وأهاليهم ومشرفيهم من الأساتذة، فقد أمنت لهم فرشات للنوم ومواد للتنظيف ووجبات يومية ومولدة للكهرباء أثناء أوقات الانقطاع الطويلة في المنطقة.
بحسب محمد (35عاماً)، أحد المتطوعين في “لجنة إغاثة جرمانا”، التي تعمل مع “الهلال الأحمر” وتساعد النازحين في المنطقة، توقف “الهلال الأحمر” عن تقديم الغذاء بعد أن قام عناصر من “قوات الدفاع الوطني”، الميليشيا الموالية للحكومة، بتصوير توزيع الوجبات والإدعاء بأنها من قبلهم، مع هتافات تؤيد بشار الأسد وتتوعد بلدات الغوطة الشرقية. استفز هذا التصرف الكثير من الطلاب والطالبات، وذكر محمد أنّ اللجنة استمرت بتقديم المساعدة عبر مجلس المدينة البلدي دون إشهار ذلك، احتجاجاً على “موقف “قوات الدفاع الوطني” المخزي والمسيء لأهلنا المنكوبين”، بحسب تعبيره.
ويقول مدرس اللغة فرنسية محمد (32 عاماً) الذي رافق طلابه من بلدة جسرين، إن نوعية الطعام ساءت بعد ذلك اليوم.
المدرسون والمدرسات، مثل الطلاب، رأوا في التواجد في دمشق فرصة لالتقاط أنفاسهم من الحصار. بعد أن استلموا رواتبهم المتأخرة، سارعوا إلى الأسواق لشراء الملابس والهدايا، والذهاب إلى المطاعم، والتمتع بكل ما حرموا منه.
راغدة (24 عاماً) مدرسة لغة عربية من بلدة سقبا، رافقت طلابها إلى دمشق ليؤدوا الامتحانات.
تقول: “كنا نتواصل مع وزارة التربية عبر تطبيق “واتس أب”، لأن الاتصالات الهاتفية غير متاحة، ولم نستلم أي راتب منذ أكثر من عام”.
ينتشر عدد من المدارس الجديدة التابعة لبعض الجهات العسكرية أو الإسلامية في مناطق ريف دمشق التي تسيطر عليها المعارضة، وتقدم هذه المدارس تسهيلات للطلاب والأهالي، كوجبات ونقل مجاني، وبعض المساعدات الإغاثية. بالإضافة إلى ذلك، لا يزال الكثير من الطلاب يداومون في العدد القليل جداً من المدارس الحكومية التي لم تتدمر بفعل الحرب، التي أصابت بأضرار نحو خُمس المدارس في سوريا على الأقل، بحسب إحصاءات “الأمم المتحدة” من العام 2013.
وتستمر تلك المدارس بالعمل بكادر تدريسي يتألف ممن بقي من المدرسين وبعض طلاب الجامعات.
قالت راغدة لـ”دماسكوس بيورو إن المدرسين استطاعوا تأمين كتب لطلابهم خلال العام الدراسي الذي انتهى في شهر أيار/ مايو بعد عناء البحث الطويل في المستودعات التي يقع بعضها في مناطق خطرة، وجمع ما أمكن من كتب قديمة.
الفراغ الرسمي في مناطق ريف دمشق المحاصرة، والتي تسيطر عليها المعارضة المسلحة، لم تملأه الحكومة المؤقتة التي عينها “الائتلاف الوطني” المعارض. وبحسب أحد مسؤولي العلاقات العامة في وزارة التربية والتعليم في الحكومة المؤقتة، ومقرها مدينة غازي عنتاب في تركيا، نظمت هذه الوزارة امتحانات المرحلة الثانوية في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة وفي دول الجوار ما عدا المناطق المحاصرة في ريف دمشق، دون الإدلاء بالمزيد من التفاصيل.
وأفاد المسؤول بأن الوثائق ستصل للناجحين داخل سوريا ممن خضعوا لامتحانات الوزارة التابعة للمعارضة عبر “مديريات التربية الحرة” في كل محافظة.
جانب آخر من الرحلة خارج مناطق الحصار كان الحيرة بين المدرسين والطلاب وأهاليهم بشأن العودة أو البقاء في دمشق.
العودة إلى الغوطة تعني خسارة فرصة انتساب خريجي الثانوية إلى الجامعة، بالإضافة إلى الرجوع إلى حياة قد تكون الأقسى في سوريا. ومن ناحية أخرى يخشى الطلاب والأهالي فكرة التخلي عن أقاربهم المحاصرين وتركهم في محنتهم.
مدرس اللغة الفرنسية محمد عبّر عن عدم رغبته بترك الغوطة، لولا أن أحداً آخر لم يقبل بالقدوم للإشراف على الطلاب.
يرى محمد أن العودة واجب على من يعمل في الغوطة، التي تفتقد الكوادر المؤهلة في جميع المجالات تقريباً، بينما يفضل أن يخرج من لا يقوم بعمل هناك، فهو يشكل عبأً على الباقين تحت الحصار. ويضيف مدرس اللغة الفرنسية الوحيد في جسرين والبلدات المحيطة: “طالما هناك أحد في الداخل، سأبقى إلى جانبه”.
وقد صدرت نتائج الشهادتين الإعدادية والثانوية العامة في تموز/ يوليو، ونجحت نادية في امتحان الثانوية التجارية محرزة معدلاً جيداً رغم كل الظروف. تتنظر نادية أن يُسمح لها ولزملائها بالدخول إلى دمشق مجدداً لتقديم الدورة التكميلية لتحسين معدلها في بعض المواد، والتسجّل في الجامعة، وقد تبقى هناك لإكمال دراستها، بينما تأمل أن ينتهي الحصار القاسي على الغوطة.