حلم الحرية يعاني حجباً إعلامياً ومعارضة مُربكة

الثورة السورية في نهاية أسبوعها الثاني (1/2):

سوريا آذار 2011، جميلة وحزينة. جميلة وقد انتفضت للحرية، حزينة لدم الشهداء لاعنة السلطة وجورها المستمرين. سوريا قلقة أيضاً، لأن الآتي لا يزال قيد المجهول.

كما في الثورات الأخرى، في تونس ومصر وليبيا واليمن، بدأت الثورة السورية بشكل فاجأ السوريين أنفسهم، خصوصاً مع فشل الدعوات الأولى التي وجهها معارضون في الخارج إلى السوريين لإطلاق ثورتهم. إذ لم تلق تلك الدعوات استجابة تذكر، مما شكل حالة إحباط ويأس شديدين من قيام أي تحرك داخلي يضم شرائح واسعة من السوريين.

في الواقع، يبدو أننا أبخسنا النشطاء الشباب في الخارج حقهم، وهم الذين ساهموا في إطلاق تلك الدعوات. لكن الواقع أثبت أيضاً أن الحراك الحقيقي يصنع على الأرض وبأيدي السوريين في الداخل. فقد قربت الثورة السورية بين أبناء الداخل والخارج، بعدما كان التوتر سيد الموقف بين الطرفين في الفترة الأخيرة، وذلك نتيجة شعور نشطاء الداخل أن من هم في المغترب أو المنفى يدفعونهم ويطالبونهم بأكثر مما يستطيعون في حين أنهم يتعمتعون بالأمان في منافيهم أو مغترباتهم.

حققت تلك الدعوات من نشطاء الخارج زخماً إعلامياً كبيراً، وسلطت الضوء على سوريا وجعلتها ضمن العناوين الإخبارية في مختلف الفضائيات ووسائل الإعلام. ولا يمكن إنكار انعكاس ذلك على السوريين في الداخل بشكل أو بآخر، فيتشجعون على الخروج إلى الشارع والمشاركة على الأرض في ثورة بدأت في الفضاء الافتراضي.

كانت المشاعر تغلي فرحاً وأملاً بنجاح الثورتين المصرية والتونسية، وبامتداد رياح الثورات إلى غير دولة عربية. وتراكم الغضب نتيجة تجاهل النظام لكل ما يحصل من حوله، واستمراره في أساليب القمع والعنف والاعتقال والأحكام الجائرة كأن شيئاً لم يتغير في المنطقة، وكأن ما حصل في دول الجوار عصي على السوريين.

بدأ التململ في الداخل السوري على شكل أنشطة فردية، تمثلت في الكتابة على الجدران والدعوة إلى إسقاط الديكتاتور، إضافة إلى توزيع المنشورات وسوى ذلك من تحركات أدت إلى استنفار أمني كبير جدا، واعتقالات بالعشرات على امتداد البلاد. بل ذعر النظام لدرجة أنه منع بيع “البخاخات” إلا بموجب إبراز بطاقة الهوية الشخصية، خوفاً من انتشار الكتابات على الجدران.

درعا تثور

في الخامس عشر من آذار الماضي، انطلقت تظاهرات حاشدة في درعا. حدث لم تشهد سوريا مثله منذ عقود. كانت درعا قد شهدت، قبل نحو أسبوعين من ذلك، اعتقال أكثر من خمسة عشر طفلاً على خلفية كتابتهم شعارات مناوئة للنظام على جدران المدارس، متأثرين بما شاهدوا  وسمعوا عبر الفضائيات ليلاً ونهاراً لأيام طويلة: “الشعب يريد إسقاط النظام”، النشيد الذي أصبح يرن في أذن كل عربي يعيش أجواء القمع والاستبداد في بلاده.

انتفضت درعا. خرج الآلاف إلى الشوارع مرددين شعارات تنادي بالحرية والسلمية وتدعو إلى رفع حالة الطوارئ والإفراج عن المعتقلين. رد فعل السلطة لم يكن غريباً: القمع العاري وإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين مما أدى إلى سقوط ثلاثة شهداء.

الدماء تفتح باب الغضب حتى أقصاه. تتالت التظاهرات في كافة أنحاء درعا، وانضمت إليها قرى محيطة بالمدينة. وقع المزيد من الشهداء، بالعشرات. نقلت مشاهد القمع والقتل عبر مواقع اليوتوب والفيسبوك، ومنها إلى الفضائيات. صدم السوريون بهول العنف الممارس بحق السوريين من قبل سلطات بلادهم، لكنهم فكروا، سراً وعلانية: لقد بدأت الثورة من حوران.

المثير للاهتمام أن درعا منطقة قبلية، يندر أن يخلو فيها بيت من السلاح. ومع ذلك، كان مدهشاً وعظيماً إصرار الناس هناك على سلمية المظاهرات، حتى في إطار الرد على عنف السلطات وهمجيتها.

ومع نفي الكثير من المتظاهرين قيامهم بحرق بعض رموز السلطة في درعا، كمبنى الحزب الحاكم، وحتى لو كان هذا صحيحاً، ليس ذلك ما يعيب سلمية تحركهم، طالما لم يتم استهداف أشخاص من الفريق المقابل بالعنف الجسدي. وفي الأيام السوداء الطويلة التي خيمت على درعا، لم يسقط شخص واحد من القوى الأمنية.

الإعلام

لم يكن الوصول إلى معلومات حول ما يجري في درعا بالأمر السهل. الإعلام ممنوع من التوجه إلى هناك، الاتصالات  مقطوعة، والمدينة محاصرة. كان أهالي درعا يعانون الأمرين. مواجهة عنف السلطة ورصاصها الحي من جهة، وتوثيق ما يحصل وإظهاره للعالم من جهة ثانية.

ونحن، كشباب ومدونين، كان كل ما نستطيعه من موقعنا، هو تلقي رسائل شباب درعا ومقاطع الفيديو بشتى الطرق، ثم نعممها على الإعلام ونحشد دعماً لوقف شلال الدم.

لحسن الحظ أن قناة “المشرق” السورية، والتي طردت من سوريا قبل أشهر واتخذت مؤخراً منحىً معارضاً للنظام، عادت إلى تغطية الأحداث بعد انقطاع قصير كان قد نتج عن تهديد السلطة السورية للعاملين في القناة، وفقاً لتصريح صاحب القناة غسان عبود. واستطاعت “المشرق” أن تشكل حالة وطنية معارضة بامتياز. إذ بثت مقاطع فيديو مصورة بهواتف المتظاهرين، ومقابلات مع شهود عيان ونشطاء ومعارضين، فأصبحت القناة الأولى في المشاهدة لدى السوريين، حتى حجبها النظام وشوّش عليها، فبات بثها مقتصراً على قمر “عربسات” والإنترنت.

أما على مستوى القنوات العربية والعالمية، فقد ساهمت “بي بي سي-العربية” إلى حد بعيد في كشف حقائق مايحصل، إذ حظيت باحترام السوريين إلى حد بعيد نتيجة اهتمامها، وتغطيتها المستمرة للأحداث السورية الأخيرة.

والحال إن معظم الإعلام العربي، ورغم تردده في البداية، اضطر إلى تغطية الأحداث بالفعل، في وقت لاحق، لا سيما مع بروز الاهتمام الدولي بسوريا في الأسابيع الأخيرة.

كانت “الجزيرة” واحدة من القنوات التي لم تغطِّ سوريا في البداية، وبدا ذلك نافراً جداً نظراً إلى أنها شكلت محور استقطاب في ثورتي مصر وتونس. غير أنها، خلال الأيام العشرة الأولى تقريباً، اختارت التعتيم والابتسار في تغطيتها لما يحصل في سوريا، الأرجح بسبب العلاقات السورية القطرية المتينة. حتى أن تظاهرات درعا هتفت: “يا جزيرة وينك وينك!”، من دون أن يلقى نداءها استجابة تذكر.

المثقفون والمعارضة الوطنية

خلال الأيام الأولى للثورة، كان لافتاً الصمت السائد بين معظم المثقفين وأقطاب المعارضة الوطنية في سوريا، مما أثار خيبة كثيرين واستغرابهم.

مع الوقت، بدأ المثقفون والمعارضون يخرجون بتصريحات إعلامية حول ما يجري، وبدأ بعض الحراك المتواضع على هيئة بيانات وتنديدات. لكن حراك النخب السورية ظل محدوداً، حتى بدا أن الأحداث تتجاوز المعارضة والمثقفين الذين كانوا في يوم من الأيام الأقطاب الأساسيين في التحركات في سوريا.

لم تدع المعارضة إلى أي نشاط على الأرض منذ اندلاع الأحداث. بل إن بعضها حاول الوقوف في وجه عدد من اللشبان الذين نظموا بعض الأنشطة الاحتجاجية، بحجة أن الوقت غير مناسب، كما فعل “حزب الاتحاد الاشتراكي” المعارض في ما يتعلق بتظاهرة دوما الجمعة الماضية! وغابت أصوات مهمة عن الأحداث بمجملها، رغم ما لها من ثقل معنوي واحترام كبير بين السوريين بمختلف أجيالهم. حتى أن تصريحات بعض المثقفين أثارت من استياء عارماً من خلال إصرارها على الحديث عن “الإصلاح” بدل التغيير، في حين كانت دماء الشهداء تسفك بلا رحمة في درعا وغيرها من المدن السورية.

يرى البعض بأن السلطة نجحت، خلال السنوات الثلاث الماضية، في كسر شوكة المعارضة السورية والمجتمع المدني إلى حد كبير. وذلك من طريق اعتقال رموزها والتنكيل بهم، مما يبرر ارتباك هذه المعارضة وعدم قدرتها على التعامل مع ما يحصل الآن. ورغم منطقية وصوابية هذا الرأي إلى حد كبير، فلا يمكن أن ننكر أن الثورة السورية لم تبدأ من درعا 15 آذار، بل كانت مقدماتها تتراكم منذ “ربيع دمشق” وحتى آخر فعل قمعي واعتقال، قبل ذلك اليوم، بحق المثقفين والمعارضين السوريين.

حتى معارضة الخارج، كتنظيمات وأحزاب، لم يكن لها دور كبير في ما يحصل. بل اتُّخذ النشاط الفردي، لمعارضين وشباب في المنفى والمغترب، أساساً في دعم الثورة إعلامياً، من خلال المساهمة في بث ونشر الأخبار. إضافة إلى رفع مستوى العمل التقني على الإنترنت، كتصميم خريطة تظهر مواضع التحركات الاحتجاجية، وإطلاق صفحات على مواقع عدة لتحديث أخبار الثورة أولا بأول.