المجبراتي لا يزال حاضراً في ريف إدلب

الجبيرة التقليدية تطورت نوعاً ما أقله من حيث الشكل تصوير هاديا منصور

الجبيرة التقليدية تطورت نوعاً ما أقله من حيث الشكل تصوير هاديا منصور

"هذه المهنة لم تندثر حتى مع التقدم العلمي وزيادة عدد الأطباء. بل عادت وبقوة إلى المناطق المحررة إثر الاستهداف الممنهج للمشافي."

وقع هيثم العلوش (12 عاماً) أثناء هروبه من القصف ليصاب بكسر في قدمه. وبسبب خوفه من استهداف المشافي، آثر والد هيثم اصطحابه إلى المجبر العربي الذي عمل على إعادة عظم هيثم المكسور إلى مكانه وتجبيره بكل مهارة وعناية.
رغم توغلها في القدم إلا أن مهنة المجبراتي لا تزال حاضرة في مناطق ريف إدلب ولها مكانتها التي عرفت بها من خلال معالجة شتى أنواع الكسور والرضوض التي تصيب العظام. هذه المهنة لم تندثر حتى مع التقدم العلمي وزيادة عدد الأطباء. بل عادت وبقوة إلى المناطق المحررة إثر الاستهداف الممنهج للمشافي.
يقول والد هيثم: ” لقد بات وضع هيثم أفضل بعد تجبيره من قبل المجبر العربي، وشارف كسره على الشفاء، فهو يحرك قدمه ويشعر بتحسن”. ويضيف واصفاً المجبر العربي بأنه صاحب خبرة متأتية من التجارب العملية، وهو يضاهي الطبيب المختص من حيث الخبرة والحنكة في الكشف عن مكان الكسر ، وقدرته على إعادته لمكانه”.
ويتذكر والد هيثم حين تعرض أخوه لكسر في يده، فقصد المشفى وتم تجبير الكسر من قبل الطبيب المعالج. غير أن الذي حصل هو أن العظم لم يكن عائداً إلى مكانه بشكل صحيح ما أدى لجبر العظم في مكان غير مكانه، فاضطروا لإعادة كسره وتجبيره.
أبو ابراهيم (54 عاماً) المجبراتي المعروف في منطقة جبل الزاوية يشرح لحكايات سوريا طبيعة مهنته وأهميتها قائلاً: “ورثت المهنة عن والدي الذي ورثها هو أيضاً عن والده ، وأنا أعمل بها منذ أكثر من ثلاثين عاماً وتمكنت من علاج الكثير من حالات الكسور بنجاح دون ارتكاب أخطاء معتمداً على خبرتي الشخصية وتجاربي الخاصة”.
ويشير أبو ابراهيم إلى الخلطة التي يستخدمها في الجبائر وهي “الجبس العربي الذي يصنع من زلال البيض والطحين ولب عظام البقر، يتم مزجها جيداً ثم يتم وضعها على قطعة قماش(ضمادة) وتلف على الكسر بشكل جيد، بينما يتم استخدام ود الخشب وهو عبارة عن عصا خشبية في شد القدم مما يمكنه إعادة الفقرات إلى مكانها”.
ويلفت أبو ابراهيم إلى أن ثمة أنواع للكسور، وكل منها يعالج بطريقة معينة، ويعطي مثالاً على ذلك بأن ود الخشب يستعمل في حالة الالتواء الكامل وابتعاد الفقرات عن بعضها. وهنا يستخدم أبو ابراهيم زيت الزيتون في تمسيد مكان الإصابة، ويشد القدم إلى الأعلى حتى تتم إعادة الفقرات ثم يضع الود، ويلف المنطقة المصابة بقطعة قماش.
مع التجربة والاتقان أصبح أبو ابراهيم خبيراً في معرفة ما إذا كانت القدم مشعورة أو مكسورة قبل حتى إجراء المريض للصورة الشعاعية لها، والتي يطلبها الأخير كضمانة تؤكد اعتقاده، حيث يعتمد أبو ابراهيم على اللمس لمعرفة شكل الكسر ودرجته.
ويوضح أبو ابراهيم أن العلاج الشعبي يعالج الكسور بالأيام بما يتوافق مع عمر المصاب، فعندما يكون عمر الشخص مثلاً 30 عاماً يتعافى من الكسر خلال مدة ثلاثون يوماً. ويستثنى من ذلك المصاب بالسكري فيستغرق تعافيه من الكسر مدة 60 يوماً. أما بالنسبة للأطفال فيتم علاجهم خلال أيام قليلة لسرعة قابلية أجسامهم للشفاء فهم في مرحلة نمو.
لم تقتصر صناعة الجبيرة العربية على الرجال فقط وإنما كان هنالك نساء أتقن المهنة وورثنها عن آبائهن وأجدادهن، ومعظمهن من كبار السن. الحاجة عائشة إحدى المجبرات اللواتي حافظن على المهنة ومارسنها منذ زمن بعيد، وهي معروفة في منطقتها في القرى الشرقية لمدينة معرة النعمان ويقصدها مرضى من مختلف الفئات العمرية، ومن شتى المناطق .
واللافت بعمل الحاجة عائشة أنه مجاني وتبتغي من ورائه “أجراً من الله” على حد تعبيرها.
تقول الحاجة عائشة: “أستقبل حالات متعددة من الكسور شهرياً ممكن أن تصل إلى عشرين حالة. عدا عن الكسور أقوم بعلاج من يعانون من آلام في الظهر والأعصاب”.
وتردف “أنا لا أستخدم المشارط الطبية ولا أجهزة التصوير الإشعاعية، وإنما أعتمد في تشخيصي لحالة الكسر على ملاحظتي لألم المريض وردود أفعاله، وبمجرد لمسي للعظام وتحسسها بأطراف أصابعي أستطيع تحديد مكان الكسر بدقة”.

تؤكد عائشة أن مهنة الجبيرة العربية ليست سهلة وإنما تحتاج للكثير من الإتقان والممارسة والدراية الطويلة. وتنوه بأن أكثر ما يميز هذه المهنة هو علاج المصاب وشفائه بشكل أسرع من الجبيرة الطبية، كما أن المواد المستخدمة في الجبيرة العربية تكون أخف من الطبية التي تكون عادةً أكثر وزناً وازعاجاً للشخص المكسور”.
المريض صفوان الحلبي (22 عاماً) كان يقصد الحاجة عائشة من أجل فك الجبيرة عن يده المكسورة. يقول: “يدي هذه قمت بتجبيرها عدة مرات عند الأطباء، غير أن الألم كان لا يزال يلازمني، إلى أن نصحني أحدهم بقصد الحاجة عائشة، وفعلاً قصدتها فقامت بإعادة العظم وتجبيرها مرة أخرى بالطريقة العربية، وها أنا اليوم أشعر أنني قد شفيت تماماً”.
أما بالنسبة لأم محمد الأربعينية فقد كانت تشعر بألم في مفصلها ووجدت في المجبراتية عائشة ضالتها وتعبر عن ذلك قائلة: “لم أدع عيادة طبيب تعتب علي. دفعت الكثير من الأموال لهم بغية التخلص من ألمي ولكن دون جدوى. إلى أن قدمت للحاجة عائشة التي قامت وخلال أكثر من جلسة بتدليك رجلي مع زيت الزيتون وشمع العسل مع الماء الساخن ليذهب الألم بعد ذلك ودون رجعة”.
رغم ما يشهده القطاع الطبي من تطور وتقدم في العلم والتقنيات فإن الجبيرة العربية لا تزال حاضرة وفاعلة، يتوارثها الأبناء عن الأجداد وبكثير من الدراية والحنكة والمهنية ما جعلها محط ثقة الأهالي على مدى عقود.