يوم نزفت ادلب كثيراً

كنت سعيدة ونشيطة جداً ومتفائلة عندما استيقظت صباح يوم الثلاثاء 19 ابريل/نيسان 2016. شربتُ قهوتي مع أمي ودردشت مع صديقاتي في العمل ،عبر الفايسبوك، كنت أشعر أنني بخير. خرجتُ من المنزل ذاهبةً إلى عملي في الإذاعة، فأنا محررة ومذيعة أخبار.

سرتُ بضع خطواتٍ وإذ بي أسمعُ تحليق الطائرات فوق رأسي.. . يصرخ أحدهم: طيران روسي. يجيبه آخر: لا هذا طيران الأسد (نسبة إلى الرئيس بشار والطائرات الحربية التابعة للنظام، وتقال التسمية غالباً مع شتيمة). فكرتُ بيني وبين نفسي ماذا أفعل، أعود إلى المنزل أم أكملُ طريقي؟ أصبحتُ أرجو الله في هذه اللحظات إن قصف الطيران ومُت أن أموت قطعةً واحدة، وألا يتجزأ جسدي وأصبح أشلاء تملأ المكان، ويصعب على عائلتي التعرف عليّ. قررت أن أكمل طريقي، معتبرة أن ما يشغل بالي مجرد خيالٍ زائد. وفعلاً أكملتُ طريقي وكنتُ بخير. ولكني لا زلت أسمعُ صوت الطائرات تحلّق في الأجواء.

وصلتُ إلى منزل الرجل الذي يقلّني مع صديقاتي إلى العمل، صعدتُ السيارة، لم تكن إلا بضعةُ أمتار قطعناها، حتى أغار الطيران على كفرنبل. وضعت يديّ على أذنيّ، وبدأ قلبي يؤلمني بشدة بسبب الرعب الذي يحدث أمامي. رأتني صديقاتي وكان وجهي قد أصبح أصفر اللون، ويداي ترتجف. كنت اقول في نفسي كما أصبحت عادتي: يا رب إن مُت لا تجعلني أتألم أو أصبح أشلاء. نزلنا من السيارة بعدما أصبح الوضع خطراً جداً. لم أكن أسمع حينها سوى صافرات سيارات الإسعاف وأناس تصرخ: نريد دم زمرة O+ . آخر يصرخ: مشافي كفرنبل امتلأت، خذوا الجرحى إلى مشافي معرة النعمان.

كنتُ أرتجف خوفاً ،وكل من حولي يحاول التخفيف عنّي، لكنني لم أكن أر سوى الرعب والناس الذين ينظرون إلى السماء بحثاً عن الطائرة وأين ستقصف مجدداً.

نساء يمشين في حي المعادي بين ركام القصف. تصوير براء الحلبي

قالت إحدى زميلاتي: يجب علينا الذهاب إلى الإذاعة ومعرفة أسماء الشهداء. لم يجبها أحد.. نظرت إلينا ثم قالت: لن نموت سوى مرة واحدة، فليكن موتنا شهادة. ثم ضحكت وكأنها تستهزئ من هذا الوضع المقيت. وبعد جدالٍ طويل قررنا إكمال رحلتنا إلى العمل. سلكنا طرقاً فرعية غير مستهدفة علّنا نصل سالمين. ونحن في طريقنا سمعنا قصفاً متجدداً يستهدف مدينة معرة النعمان، كما سمعنا. كنا حينها في قرية حاس والناس ما زالت تنظر إلى السماء وتصرخ سيقصف حاس انتباه.

بعد رعبٍ دام نصف ساعة تقريباً ونحن نبحث عن طرق آمنة. وصلنا أخيراً إلى مكان عملنا، كان كل شيء مبعثراً مخيفا.ً غرفة الأخبار تضجُ بأسماء الشهداء والجرحى جراء القصف. وأنباء أُخرى عن شهداء مجهولي الهوية . حتى البث المباشر للراديو قد قُطع بسبب هول ما حدث، كل دقيقة خبرٌ جديد وموتٌ جديد وأعداد متزايدة من الشهداء في أنحاء ادلب. كنا نستعد لإعداد موجز اخباري في الثانية ظهراً ولكننا لم نستطع. كلما وضعنا خبراً يأتي شهيد جديد أو جريح أو غارة جديدة.

أمتلأ المكان بصور الشهداء والجرحى ومنازل المدنيين المهدمة والسيارات المتفحمة والشوارع والأسواق التي يجتاحها الموت من كل مكان. أبكتني صورة لطفل في سوق معرة النعمان، اختلطت دماؤه بالفراولة التي كان يبيعها وسيطر اللون الأحمر على المشهد. غرقت مواقع الانترنت والحسابات الشخصية للناشطين والمراسلين والمدنيين وغيرهم حتى خارج سوريا بهذه الصور، حتى أصبح من المستحيل عدم رؤيتها أو تجنبها لفظاعة ما تحمله من قسوة وموت!

تنهال الاتصالات علينا من عائلاتنا وغيرهم، الكل يريد أن يستعلم عن قرب أو عن أحد يخصّه .لكننا لم نستطع الإجابة، معظم الشهداء كنا نعرفهم، أحدهم أخ زميل لنا وآخر طالب إعدادي قد درّسته زميلة معنا وغيره جار لزميلة أخرى يسكن في الحي نفسه حيث تعيش هي.

العجز كان الوصف الوحيد لحالتنا تلك.

أكتب هذا الآن والطيران يحلّق فوق رؤوسنا، أسمع من زميلتي: قُصفت معرة النعمان مجدداً… وسراقب وقرية الفطيرة، وهناك أنباء عن قصف مدن أخرى كحمص والرقة ودير الزور، ولا تفاصيل حتى الآن.
أكتب هذا ونحن مازلنا ندّون ونحدّث ونتأكد من أسماء الشهداء والجرحى.

منى المحمد (20 عاماً) اضطرت لترك دراسة سنتها الجامعية الثالثة في الأدب العربي بسبب النزوح. ولدت بالطبقة بريف الرقّة، وعاشت متنقلة بينها وبين الحسكة ودير الزور، لتستقرّ بريف إدلب حيث تعيش مع أهلها حالياً.

بإمكانكم قراءة هذا المقال باللغة الإنكليزية على الرابط التالي