يوم تركت المدرسة وعرفت المسلحين عند الحواجز
الساعة الثانية فجر يوم الجمعة 13 كانون الثاني/يناير 2012، كان قد جافاني النوم، فجأة سمعت دويّ صوت قوي جداً، كانت قنبلة ألقاها أحد الثوار على حاجز الجيش، فعمّ الخوف والرعب والذعر بقلوب الأهالي، تحسباً لرد فعل عنيف.
وفي اليوم التالي هدّد الجيش أصحاب المنازل القريبة، بأنه في اكتشاف أي علاقة لهم بأي عمل سيقدم عليه من وصفهم بـ”الإرهابيين”، ستكون نهاية صحب العلاقة.
أذكر جيدا تلك اللهجة التي تكلّم بها أحد المسوؤلين عن الحاجز”إذا واح منكن بيطلع من بيتو بعد الساعة 6 المسا بدي فضّي هالروسية (نسبة للدولة المصنّعة للبندقية الحربية) براسو ولو كان طفل رضيع”. وأضاف قائلاً: “وأعذر من أنذر”.
بعد ذلك بأيام علا صوت مئذنة جامع الأربعين القريب من منزلي. جاء في البيان المذاع عبر المسجد الإعلان عن منع الذهاب إلى المدرسة حتى إشعار أخر. ذلك تطبيقاً لأوامر الجيش.
حينها تم حرماني من ارتياد المدرسة، ومن رؤية صديقاتي اللواتي كنّ يخفّفن من همومي وأحزاني وغربتي عن أسرتي. فقدت الأمل بالعودة من جديد إلى مدرستي، ومن تقديم الامتحان، أصبت حقاً بالاكتئاب.
بالرغم من ذلك لم أرغب بالخروج من مدينتي كفرنبل، في ريف إدلب الجنوبي، والذهاب لزيارة عائلتي في ريف دمشق. كنت آمل أن أعود إلى مدرستي بأقرب وقت ممكن.
في أحد الأيام في شهر شباط/ فبراير 2012، وجدتني وقد انتهيت من توضيب أمتعتي استعداداً للسفر. كان الباص ينتظرني، هممت بالرحيل وعيناي تفيض بالدمع. تمنيت في تلك اللحظة أن يحدث أي شيء يمنعني من الذهاب، لكنها بقيت أمنية، صعدت إلى الباص وبدأت رحلة السفر تلك.
كانت الثورة في تلك الفترة قد أصبحت ثورة مسلحة. وكان الثوار مثلهم مثل “عناصر الأسد”، يتمركزون في حواجز لا تبعد عن حواجز الجيش النظامي بكثير.
سلك السائق حينها طرقاً فرعية خوفاً من حواجز قوات النظام. لم اكن أعرف الطريق، ولم أكن أعرف إلى أين ذاهب بنا هذا السائق، الذي كلما تمنّى عليه أحد ركاب الباص، ألّا يقترب من حواجز النظام، تغيّر لونه، ورغم تلبيته للطلب إلّا أنه كان يرجو تغيير الموضوع، وعدم ذكره مرة أخرى.
على الطريق التي كنا نسلكها ومن دون سابق إنذار توقف الباص، صعد إليه رجل، قصير القامة، ذو لحية طويلة سوداء، يرتدي بذة عسكرية، ويحمل على كتفه بندقية (الروسية). ظننته أحد عناصر النظام، لأنه كان يرتدي نفس الثياب، ولكن كانت حقاً صدمة لي، عندما علمت بأنه أحد عناصر الجيش الحر.
قال الرجل بعصبية للسائق: “إنزل من الباص انزل فوراً، وعيب عليّ خليك تمر من هون مرة تانية”. شعر السائق حينها بالخوف والقلق الشديدين، حاول تهدية ذلك الرجل، لكنه كلما جادله علا صوته أكثر وأكثر، وقال للسائق: “أنت إرهابي، تعمل على تهريب عساكر النظام لرؤية عائلاتهم في درعا مقابل المال، أنت خائن”.
بدأ حينها جدال بين الطرفين، إلى أن صعد الرجل المسلّح ورفاقه على متن الباص. قالوا أنهم قرروا أن يحرقوه. طلبوا منا جميعاً النزول من الباص وأخذ أمتعتنا، حينها تمنيت أن أفعل أي شيء لأغير ما يجري حولي، ولكن ماذا بإمكان فتاة في الرابعة عشرة من عمرها أن تفعل في ذلك الوقت!
كانت تجلس بجواري فتاة، تصغرني بسنة، ومعها إخوتها وأمها، فقالت لإخوتها: “يجب أن نظهر بمظهر الخائفين، وإلّا فهم لن يدعونا نمر لنصل إلى البيت بسلامة، ونرى والدنا الذي لم نره منذ 6 أشهر”. بدأت الفتاة وإخوتها الصغار بالبكاء، آملينين بتصرفهم هذا أن يحن قلب ذاك الرجل الذي بات بالنسبة لي والجميع بلا شفقة ولا رحمة.
فقال رجل كبير في السن: “يا ابني اتركونا من شان الله، دعونا نمرّ بخير، نحنا نفضّلكم على النظام، وما اخترنا أن نمرّ عبر حواجز النظام، نحنا أملنا بكم كبير”.
وما إن انتهى الرجل من كلماته تلك، حتى ابتسم له الرجل المسلّح. ربما أثّر به ما قاله، وربما أثّرت به دموع النساء والأطفال، فقال: هذه المرة سأدعكم كرمى للنساء والأطفال” وتوجه إلى السائق بالقول “وعد شرف، المرة المقبلة إذا رأيتك لن تبقى على قيد الحياة”.
ربما كنت خائفة وربما لا، بدأت تجول في رأسي الكثير من الأسئلة والأفكار. أحقاً هم من عناصر الجيش الحر الذين سمعت عنهم الكثير من المديح؟ ماذا لو أنهم أحرقوا الباص؟ ماذا لو أنهم قتلوا السائق؟ هل كانت تلك التهم باطلة أم على حق؟ هل وهل وهل وإلى أين وصلنا؟
تابع السائق الطريق، إلى أن وصلت إلى منزلي الكائن في حي السبية، في ريف دمشق، حيث الحياة هناك هادئة، خالية من الاشتباكات والخوف والرعب، وكأنني كنت بعالم وأتيت إلى عالم آخر.
وبعد انقطاع دام قرابة ثلاثة أشهر، فتحت المدرسة أبوابها من جديد، مع اقتراب موعد الامتحان، عدت حينها إلى المدينة لتقديم الامتحان، كان ذاك النهار من أجمل أيام حياتي.
بسمة الحسن (18 عاماً) طالبة في المرحلة الثانوية، مع بداية الثورة، انتقلت مع عائلتها من ريف دمشق إلى كفرنبل حيث تقيم حالياً.