ياسين الحاج صالح في حوار حول لاءات الثورة الثلاث
حوار: رزان زيتونة
السلمية ام العسكرة، رفض أم قبول التدخل الخارجي، إحتمالات تطييف الثورة والنزاعات الأهلية، جميعها أسئلة أصبحت مطروحة بشدة بعد أكثر من ستة أشهر على انطلاق الثورة في سوريا. وحولها نحاور الكاتب السوري والمعارض السياسي ياسين الحاج صالح، الذي سبق وقضى في سجون الأسد الأب ستة عشر عاماً بعضها في سجن تدمر السيء الصيت والذكر.
1- يرى جزء من السوريين المنخرطين في الثورة وبعض المعارضة، أن الثورة السلمية بلغت حدها، ولا بد من الإنتقال إلى العسكرة، ما رأيك؟
الإنتقال إلى العسكرة يعني نهاية الثورة. لأنه سيؤدي إلى تضييق قاعدتها الإجتماعية كثيراً، وإلى تصدر المسلحين الشباب الذكور المشهد الوطني بدل المتظاهرين السلميين (ومنهم نساء وأطفال وكبار في السن…)، وإلى إفقاد الثورة تفوقها الإنساني والوطني على النظام، دون أن يضمن بعد هذا كله هزيمة النظام في النهاية. في ملعب السلاح والعنف النظام يملك تفوقاً أكيداً، ولذلك عمل منذ البداية إلى جر الثورة إلى هذا الملعب كي تخسر هي نقطة قوتها (التفوق الأخلاقي والقاعدة الاجتماعية الواسعة) وكي يوظف هو نقطة قوته (السلاح والعنف) إلى أقصى حد.
وفي أحسن الأحوال قد تحقق العسكرة إسقاط النظام، لكن رهان الثورة هو سورية جديدة ديمقراطية، وليس مجرد إسقاط النظام. فإذا جرى إسقاطه على يد الإنتفاضة السلمية كانت فرص التحول إلى سورية الجديدة كبيرة، بينما هي معدومة فيما لو جرى إسقاطه عبر عنف مسلح.
الثورة السورية ديمقراطية لأن مطالبها وتطلعاتها عادلة وتخاطب السوريين كبشر وكمواطنين، بصرف النظر عن أصلهم وجنسهم وطبقتهم ودينهم. وهي ديمقراطية أيضاً لأنها سلمية، ما يتيح مشاركة متنوعة، لا تستبعد منها النساء ولا الأطفال ولا كبار السن. أما العنف فهو “نخبوي” بطبيعته، يقتصر على الذكور الشباب، ويمنحهم السلطة العليا، وبالتالي فهو غير ديمقراطي.
ثم إنه يرجح للعسكرة في بلد مثل بلدنا أن تجري على أرضية فكرية دينية، وهذا يسهم في تطييف الثورة، وهو ما يريده النظام أيضاً، وما كان يريده منذ البداية. وهذا ما لا نريده نحن.
2- لماذا يتوجه المثقفون باللوم إلى نداءات طيف من المتظاهرين السلميين بالحماية الدولية؟ هل من المنطق ترك الناس تقتل بالجملة من غير أي رادع أو وسيلة لحمايتها؟
الأمر له علاقة بوظيفة المثقفين والسياسيين أو التزامهم الأساسي. واجبهم أن يطرحوا قضايا الثورة في سياق وطني أوسع ويخضعوا كل شيء للمصلحة العامة للثورة وللبلد، وليس للإنفعالات الظرفية أو الحسابات الخاصة. المسألة ليست مسألة لوم، بل تحكيم مصلحة الثورة في مواقف وتحولات قد تعرض أثناء سيرها. طبعاً أتكلم على المثقفين المنحازين فعلاً للثورة والمشاركين في أوجه متنوعة من عملياتها. من هم ضد الثورة في كل حال، لم يكونوا ينتظرون الكلام على حماية دولية كي يعادونها ويشككون في وطنيتها.
ثم إن تصور الحماية الدولية غامض، ويتراوح بين مراقبة حقوقية وإعلامية وبين التدخل العسكري. الأول لا يضمن حماية فعلية للشعب، وليس مضموناً أن يتوافق الثاني مع مصلحة الثورة ومصلحة سورية. وهو في حدود علمي ليس مطروحاً عند القوى الدولية المعنية بالأمر. فلماذا نحول قضية خلافية إلى أحد عناوين الثورة، ونتسبب في حالات سوء تفاهم بيننا، بينما القوى الحامية المفترضة لا تطرح الأمر على نفسها؟
وبعد هذا كله أرى أن من شأن الصيغة العسكرية لطلب الحماية أن تتسبب بتمزق عميق في الضمير الوطني السوري، لا يجوز أن تتحمل الثورة السورية وزره.
3- بدأت مؤخراً تبرز أصوات وبعض سلوكيات تنم عن خوف مكبوت ومتبادل بين العلمانيين والاسلاميين في صفوف الثورة، هل هناك مخاوف حقاً من “أسلمة الثورة”؟ ولماذا تكون أسلمة الثورة مثلباً، مع العلم أن أغلبية المنخرطين في الثورة، أغلبية الشهداء والمعتقلين، هم من المسلمين السنة، على حد تعبير أحدهم في موقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك؟
السوريون لا يتوحدون على أرضية إسلامية ولا على أرضية إسلامية سنية، بل فقط على أرضية المواطنة المتساوية. وبالنظر إلى التكوين الاجتماعي الديني للمجتمع السوري، فإن أسلمة الثورة تعني التبرع سلفاً بنصف السكان على الأقل للنظام.
وحين تفجرت الثورة حرّكها إعتراض على طغيان النظام وتمييزه وبهيمية رجاله، ثم تطلعات الحرية والكرامة، وهذه تطلعات جامعة للسوريين وتتجاوز تمايزاتهم الدينية والإثنية والمذهبية.
أن يكون مسلمون سنيون هم أكثرية السوريين، وأكثرية المشاركين في الثورة، وأن يستخدم الناس لغةً ورموزاً تشبههم في كفاحهم ضد طغيان لا مبدأ له، هذا كله شيء، والأسلمة شيء آخر. هذه تعني حكماً إسلامياً يقوم على “تطبيق الشريعة” أو على “الحاكمية الإلهية”، وليس حكماً ديمقراطياً يمكن أن يشارك فيه الإسلاميون أو يكونوا أحد أطراف الحياة السياسية فيه.
ثم أن أحد منابع الثورة ومحركاتها هو طائفية النظام، فلا يصح بحال إبدال طائفية بطائفية.
أنا ضد الصيغ المتشنجة من العلمانية التي تستبعد الدين من الحياة السياسية والعامة، لكني مع علمانية أكثر انفتاحاً تفصل بين الدين والسيادة ومقرها الدولة، أي بين الدين وكل من العنف والولاية العامة. والمضمون الإيجابي لهذه العلمانية هو المساواة بين المواطنين الأحرار، بصرف النظر عن الدين والمذهب. أي أنها ديمقراطية حتماً، وقائمة على حكم القانون والحريات العامة. ومن مضمونها أيضاً احترام الإسلام، والأديان عموماً من قبل الدولة. فلا تستقيم أمورنا في ظل حكم يميز ضد الأديان، أو أحدها، وينشر ظلالاً كثيفة من الضغائن والكراهيات الدينية، وإن تحت غلالة “علمانية”. لكنها لا تستقيم أيضاً بالقطع في ظل حكم ديني. وأعتقد أن الحساسية العامة للثورة علمانية بهذا المعنى المنفتح للكلمة. ولا ينبغي شدها باتجاه الأسلمة أو باتجاه الصيغ المتشددة أو الدينية المقلوبة من العلمانية. هذا يضعفها ويمزق المجتمع السوري.
4- هل ينبئ ظهور مثل هذه الحساسيات عن إمكانية انقلابها إلى نزاعات طائفية في المستقبل القريب؟
ليس هناك مؤشرات على ذلك في الوقت الحاضر. المحركات الإجتماعية والسياسية والقيمية للثورة السورية تخاطب جميع السوريين، وتجتذب إليها منحدرين من أصول دينية ومذهبية متنوعة.
بحكم تكوينها التحرري والوطني والإنساني العام، ظلت الثورة طوال نصف عام ممانعة للطائفية والعنف. بالمقابل، ولأنه نظام طغيان لا مبدأ له ولا قضية عامة، كان النظام هو الطرف الذي اعتمد على العنف والطائفية منذ البداية. إلا أنه ليس قدوة أو مثلاً أعلى لنا، بل هو المثل الأسفل الذي ينبغي ألا تشبهه سورية، وهو الشيء الذي نريد تخليص سورية منه.
لكن أخشى أنه إذا مضى النظام في ممارسة العنف الوحشي الواسع: النطاق والتطييف أن تنجر قطاعات من السوريين إلى مواجهة العنف بالعنف والتطييف بالتطييف، وقد يفتح ذلك باب نزاع أهلي هو أكثر ما يخشى على البلد منه. ألم يكن لسان حال النظام دوماً: نحن أو الفوضى، أو كما كتب الشبيحة في حماة: الأسد أو لا أحد! فإذا انزلقت سورية نحو أن تكون بلداً للا أحد، كان ذلك فوزاً للنظام ولو سقط.