وطني فرشاة أسنان!
منذ اللحظة ألأولى التي وطأت قدماي شوارع بيروت، بدأت أحس التشرد. طبعاً هذا الشعور الأول لا يقارن أبداً بما واجهته في الأيام التي تلت. لكن يبدو أن التشرد ليس فقط الضياع في مدينة لا أملك مفاتيحها ولا أعرف طرقاتها المتشابهة ولكنة أهلها التي إن عزفت عن محاولة تقليدها وقعت في أولى المشاكل التي تواجهني. عندئذ سيلّح محدثي بعد ان إكتشف أنني من سوريا، ويحاول إقناعي بأن النظام لن يسقط أو بأن الأمر سيطول جداً ويحذرني من المبالغة في الأمل بالعودة لدياري قريباً، خصوصاً أنه حتى لو سقط النظام ستقوم حرب أهلية لا محالة.
حالة من عدم الإتزان والمكوث في متاهة لا أقدر أن أجد آخرها ولا أذكر حكماً أولها. يترافق هذا مع سعادة عارمة لأنني لست مضطرة في التفكير بالآخر وهمومه ببساطة لأنني في حال أكثر سوء منه. وغيمة من الحزن ترافقني أينما ذهبت، تفضحني، تذبحني، تخترقني كرصاصة رحمة تنأى بي عن الوقوع في نسيان أنني مشردة. مثل قرش ريكاردو المسحور، يضعه في جيب بنطال ليجده في جيب بنطال آخر.
لا شك أن هذه الفلسفة الوجدانية لا يمكن ان تشبّه ولو بشكل سطحي للتشرد الحقيقي. أن أنام كل ليلة في بيت جديد وعلى فرشة جديدة وبين أناس جدد أعلم تمام المعرفة أن لكل منهم قصة غريبة يتوجس من أن يعلمها الآخرون. أن يتوجب علي الخروج في كل مرة أجوع فيها أو أن آكل أي شي أجده في المكان الذي أنا فيه. أن لا أنام أبداً و أنا أفكر وتأخذني أفكار ونزوات. أن يلتهمني القلق حتى وأنا نائمة بعد أن ذابت أجفاني من النعاس واقتحم شيطانه حلمي كما يقتحم الحب قلبي دون نذير أو أذن أو رحمة ترجى.
أن أراقب روحي وهي تجتر أحزان سنين مضت وهي تستعيد كل لحظة مؤلمة أوجعتني يوماً وكل لحظة يأس أرهقتني يوماً وأنا أقاتل لأخرج منها او أخرجها مني. أن أستذكر أحلامي و أوهامي التي لم يعد لي سواها اليوم ملاذاً آمناً ألجأ إليه حتى لا أنسى أنني إنسان يفيض بالمشاعر والفكر والرغبة في العيش الكريم وفي حياة طبيعية كتلك التي أشاهدها في الأفلام. ويصيبني العجب إذ أن هناك من يحيون بشكل آدمي أشبه بما يكون للرغد والهناء المطلق بالنسبة لي في تلك اللحظة. أن أتذكر عمري يومياً! عند مطلع كل صباح مع كل رشفة قهوة تسعدني سعادة جمة.
وعندما أصل الى قمة التشرد، أدرك كم أنا شديدة التعلق والولاء لفرشاة أسناني! لأنها لي وحدي ولا أحد يشاطرني إياها. أصبح يوماً لا أذكر من أنا وأي أنسان أكون وما هي طباعي الأساسية وكم تهمني أمور النظافة والعطور التي يتعذر علي اليوم إدراجها في أولوياتي قصراً. فأنا الآن أوالي كل من تجمعني به الأقدار، ليس لدي خاصية الانتقاء. حتى الأصدقاء والأحبة هم من تجمعني المواقف بهم. وفي وسط كل هذا التشرد-طبعاً، يباغتني أحدهم بالكلمة التي أصبح لها معنى مختلف لدي:
أنت من سوريا؟ نعم. آه هربانة؟ لا! قدي صرلك هون؟ كم اسبوع؟ شو عم تعملي ببيروت؟ عم فتش على شغل. متل شو؟ أي شي! يعني هربانة! لا ماني ملاحقة، ما علي شي، أسمي مو عالحدود. بس جيتي حتا تبعدي ما هيك؟ يعني تتهربي من هنيك. وتجد نفسك تقولين نعم انا هاربة اذاً!
ويتلقف الحديث آخر. فيبدأ يحدثني بالسياسة والمأزق الذي تقع فيه بلادي المتهاوية وكيف أنه ليس هناك خطة محكمة لتلك الثورة الهائلة التي خرجت واندلعت مثل نار تأكل كل ما تجد امامها وتموت كل مرة تخرج فيها لتعود وتبعث من جديد في يوم آخر مدججة بالدماء والخسائر التي لا حصر لها. فأنظر إليه وأقول بعد ان استنفذت كل الصبر الذي ألهمني الله إياه لأتحمل الاستماع الى غرباء يتناولون أطراف حديث عن مأساة حياتي الشخصية وهم يحتسون الأشربة الباهظة الثمن كما في أحد تلك الصالونات الأدبية. تخرج مني كلمة واحدة: عذراً ماذا قلت؟ ثورة خطة سياسة؟ نحن لا نفهم هذه الكلمات ولم ندعي يوماً أننا نفهمها. من قال أن الثورة السورية سياسية المولد والنشأة؟ فيجيب مستغربا: ماهي إذاً؟ كيف تستشري ثورة مهولة تمتد عاماً كاملاً تحصد الأرواح وتشرد شعباً بأكمله وفي نفس الوقت تهز عرشاً كان يظن شروشه مغروسة في أعمق طبقات الأرض ولا قوة لأحد على نزعها أو نزعه؟ فأقاطعه بلطف وإبتسامة: عزيزي نحن لم نخرج لنقيم دولة جديدة. نحن خرجنا بصرخة ألم ابتلعناها 50 عاماً من الظلم والقهر والحرمان والذل. لم يصرخ الشعب السوري نريد إسقاط النظام في البداية فلم تكن هذه الغاية أبداً. بل صرخنا اول ما جلجلت حناجرنا “الشعب السوري ما بينزّل.” فنحن أناس سكتنا طويلاً لأننا نعلم أنه إن حاولنا التغيير فنحن ذاهبون الى المجهول. وأهل سوريا أدرى بشعابها. أنشدنا حرية حرية! فقط أردنا إيقاظ العالم وإيقاظ أنفسنا من سبات طال وصبر أيوبي لايقدر عليه أحد على أمل فرج قريب.
وعلى وقع قرع الكؤوس وطعم “جاك دانييلز” السلس في فمي وأغنية “دق ألماني” تنضح من مكبرات الصوت في “باب” صغير أمارس أهم طقوس تشردي وغثياني.
أعود أدراجي إلى حيث تركت أشيائي آخر مرة. أبحث عن جهازي الغالي. ألج الى صفحة “الفيسبوك” خاصتي التي أصبحت كل ما يربطني بالعالم او الإعلام. أرسل “ستيتوس” غريب يحظى على عدد هائل من “اللايكات” والتعليقات. “من مكان لمكان واغراضنا بكل مكان و قلوبنا مالها مكان.”
عندها فقط أعرف تماماً أنه قلبي الذي يتشرد بالفعل لكنني أقصيه وأقمعه بإرغامه صاغراً على تحمل تشردي المكاني وأنه لا يدق ولا ينبض ولا يتألم من الوله والهيام، إنما هو فقط يعاني من التشرد.