وشوشات شباب الثورة السورية
كمال شيخو( دمشق)
– 56 ساعة من التعذيب كانت كافية لإصراري على مواصلة الاحتجاج السلمي.
– قلت لهم: أنا صبية ومن حقي أن احدد مستقبلي.
– اعتقد ان سجونهم لم تعد تتسع للكلمة الحرة.
بهذه العبارات البسيطة، تواصل لقاء مجموعة من الشباب في أحدى مقاهي دمشق القديمة وسط العاصمة السورية. وبصوت خافت وهادئ يترافق مع بعض الخوف والرعب, تبادل هؤلاء الشباب أطراف الحديث حول ما يحدث في سورية. وشرح كل منهم تجربته خلال مجريات أحداث الثورة التي يعايشونها باعتبارهم جزء من نواتها الأساسية.
رودي شاب أكاديمي يعمل مع أحدى المنظمات الإنسانية في دمشق, طلب أجازة من الإدارة لمدة أسبوع, ليشارك في المظاهرات, ويساهم في صناعة تاريخ سوريا الحديث، ويكون جزء من التحول التاريخي على حد وصفه. تكلم عن الستة وخمسين ساعة التي قضاها في المعتقل. قال “عندما وصلت منتصف النهار, وبالتحديد بعد صلاة الظهر الى الساحة التي اتفقنا انا وأصدقائي على اللقاء فيها للمشاركة في المظاهرة, تفاجئنا أن قوات الآمن مدعومة من عناصر الشبيحة, تهاجم المتظاهرين, وكان القمع الذي يمارسوه عنيف جداً, والكلام يعجز عن وصف الحالة التي عشتها أنا وزميلي. فالأجهزة لاحقتنا عندما شاهدتنا نتقدم باتجاه الساحة, وكأنهم يعلمون أننا قد جئنا للمشاركة في المظاهرة. وهذا ليس بغريب لأنه يبدوا أنهم قد فرضوا حظر التجوال في كل المنطقة كي لا يخرج احد معرضاً نفسه للضرب او السجن.
عندما اقتادونا الى السيارة كانت تلك لحظات لا تنسى في حياتي, تصرفوا معنا كما لو انهم يقتادون كلاب، عاملوننا كالحيوانات, إلا أن الأمر كان أفظع من ذلك بكثير: ضرب كيفما كان وشتائم من كل صنف ولون. عندما وصلنا الى السجن, كان بإنتظارنا عناصر اخرين قاموا بضربنا مجدداً، وهم يصيحون “بدكن الحرية ما” ولا أتذكر ماذا حدث بعد ذلك لأنه أغمي علي لمدة طويلة. وعندما صحوت، رأيت زميليّ وقد نالآ الكثير من الضرب ربما مثل ما نلته أنا او أكثر. وما زاد الخوف والرعب في نفوسنا، هو أنهم كانوا يعذبوننا جميعاً في نفس المكان ونحن نتفرج على عذابات بعضنا البعض. إعتقلت مدة 56 ساعة, كانت كافية لإصرار على مواصلتي الاحتجاج السلمي، وقيامي بتكرار المشاركة بالتظاهرات”.
نور أنهت دراستها الجامعية حديثاً. وفي الفترة التي كانت تبحث فيها عن عمل لتبدأ مستقبلها, انطلقت الثورة من أقصى الجنوب السوري الى أقصى شماله. لم تقبل نور الحياد, فقررت المشاركة في المظاهرات رغم خوفها الشديد من بطش الأجهزة الأمنية والشبيحة. تقول عن تجربتها “عندما شاركت بأول مظاهرة في أحدى ضواحي دمشق, قلت لأهلي أنني سأذهب للمشاركة في تحديد مستقبلي, أنا فتاة في مقتبل عمري, أريد العيش في ظل دولة يتساوى فيها المواطنون أمام القانون. واعتقلت ثلاث مرات, وفي كل مرة أقول لهم نفس الجملة: أنا صبية ومن حقي أن احدد مستقبلي”.
عمر شرح كيف مارس الرياضة والتمارين قبل المشاركة في الاحتجاجات وأنها كانت مفيدة جداً له. فهو كان لاعباً في إحدى الفرق الرياضية, ويعلم أن من أهم السمات العصرية التي يجب ان يتمتع بها المتظاهر السوري, ان يكون سريعاً في الركض, لكي لا تعتقله أجهزة الأمن. وشرح كيف يصل الى الساحة وكيف يشارك وكيف يبدأ الركض عندما تتقدم أجهزة الآمن وتهاجم المتظاهرين, وأصبح من السهل بالنسبة له التمييز بين المتظاهر الحقيقي ورجل الأمن المتخفي بزي مدني أو من عناصر الشبيحة الذين أصلاً يلبسون زياً مدنياً كي لا يعرفهم أحد. لأن هؤلاء يقومون بالاندساس بين المتظاهرين لتتحول هذه الحركة السلمية الى مظاهرة عنيفة وتعطيهم مبرر بالهجوم والانقضاض عليها. ويقول: “اعتقد أن سجونهم لم تعد تتسع لكلمة حرة او رأي مختلف او مطلب حق في سوريا. فالنظام يروج أن هناك حركات سلفية ومندسين لتشويه حركة الاحتجاجات.
الإحتجاجات بدأت بمطالب خدماتية، من ثم انتقلت الى إصلاحات سياسية, الى أن وصلت الآن بإسقاط النظام. وهو أمر طبيعي لان التعذيب والقتل والترهيب الذي تمارسه أجهزة الأمن والشبيحة, دفعت المحتجين الى تبني وتوحيد شعار إسقاط النظام. وبرأيي لن يتراجع اي متظاهر عن هذا المطلب لأن عدد القتلى وصل الى قرابة ألف ومائتي شهيد على يد رجال الأمن والشبيحة, وهناك قرابة أثنى عشر ألف معتقل على خلفية مشاركتهم في المظاهرات”.
ومن ثم انتقل الحديث الى مقارنة الحركة الاحتجاجية الشبابية في سورية، بما حدث في شرق أوروبا. حيث أن هذه الثورة تذكرنا بربيع براغ, الذي بدأ بمظاهرات طلابية سلمية في السابع عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1989. والتي قمعتها بشكل عنيف وحدات الشرطة البوليسية التي كانت تهيمن على كافة مناحي الحياة. هذا الإجراء كان بمثابة الزناد الذي أطلق الثورة المخملية في تشيكوسلوفاكيا. حيث كان يحكم الحزب الشيوعي البلاد وفقاً للدستور الذي كانت تنص فقراته الأساسية على الدور القيادي للحزب في المجتمع والدولة, والذي تتشابه نصوصه الى درجة تصل الى حد المطابقة بالدستور السوري. فجاء في مادته الثامنة “حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية”
وبعد ذلك عاد الحديث الى بداية الثوراة العربية. فمع دخول العالم العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، عمت أرجاء العالم العربي حركات احتجاجية ومظاهرات طالبت بزوال الدكتاتوريات. تونس أولى الدول العربية التي بدأت عملية التحول الديمقراطي, التي أسقطت الدكتاتور زين العابدين بن علي بثورة شبابية خرج أليها الملايين. هذه الخطوة سرعان ما انتقلت الى مصر, وبالذات الى ميدان التحرير الذي اعتصم فيه الشباب المصري لإسقاط نظام حسني مبارك. ألا أن هذين المشهدين لم يتكررا في باقي الدول العربية؛ ففي كلاً من ليبيا واليمن وسوريا, شهدت شعوبها أحداث دامية كالتي حدثت في نهاية ثمانينيات القرن الماضي في أوربا الشرقية, ولاسيما في بلغاريا ورومانيا التي شهدت ثورتهما أحداث دامية نتيجة قمع أجهزة البوليس والمخابرات لتلك الدول التي كانت تحكمها أنظمة شيوعية, شمولية كأغلب الأنظمة العربية التي تحكم منطقتنا.
تلك الهمسات التي تبادلها الشباب فيما بينهم, أشعلت الثورة السورية, وهذه الوشوشة هي التي ستحافظ على استمرارية حركة الاحتجاجات الشبابية السلمية. فهكذا أنهى الشباب حديثهم وانطلق كلاً منهم ليخطط ماذا سيفعل في اليوم التالي.