ورحلت على باب الله
كبرت أختي الصغيرة فجأة. إنها المسؤولية لا العمر. تحوّلت صغيرة العائلة إلى معيلتها. والد كفيف ومريض، أعجز من الاهتمام بنفسه، أخ أصيب بالشلل النصفي فلم يعد بمقدوره إعانة زوجته وطفله ولا مساعدتنا طبعاً، وأنا كان علي الاهتمام بأبي بعد رحيل والدتي التي تغلّب عليها المرض.
أخي كانَ المعيل الوحيد لعائلتي، وبعد إصابته بالشلل إنقطعَ مصدر عيشنا لأكثر من سنة كاملة وعشنا من صدقات الناس… ما أصعبها من أيام عشناها في فقر وذل لم يتجرعه مخلوق.
كل ذلك اضطرَّ أختي الصغيرة للعمل على عربة تحمل ما يصعب على الآخرين حمله، وتقوم بتوصيله إلى منازلهم. أختي الصغيرة كانت معروفة من أهالي مدينتي بأنها “درويشة وعلى نيَّاتها” فكان كثيرُ منهم يستعينونَ بها لنقل الأغراض، ويُعطونها بدلاً جيداً من باب المساعدة. فتحسَّنت حالتنا كثيراً ولم نعد بحاجة أحد بفضل الله ومن ثم بفضلِ أختي.
في 12 أكتوبر/تشرين أول 2013، سمعنا صوت طائرة مروحية، كان أمراً معتاداً ولكنه كان يصيبني بالخوف كل مرة. كانَ قريباً لدرجة أنَّ نوافذَ المنزل بدأت تُصدر أصواتاً تُنذر بشيءٍ كبير.
أبي بدأ بالتشهُّد والدُّعاء بصرف البلاء عنّا. أخي طريحُ الفراش، نظراتُ عينيه تُكرِّر خوفَهُ القديم عندما أُصيبَ بشظية في ظهره، وها هو الآن يترقُّبٍ ذلك الصوت بصمتٍ عميق.
“الطائرة المروحية ألقَت البراميل… انتبهوا يا أهالي كفرنبل، فليتوجه الجميع إلى الملاجئ”، كانت تلك تحذيرات المراصد من خلال القبضات اللاسلكية… وبعدَ لحظات من إطلاق هذه التحذيرات، هزَّت المدينة إنفجارات ضخمة!
دقائق وانصرفت تلك الطائرة بعد أن عاينَ الطيَّار مكان البراميل ومدى الدمار الذي خلّفهُ. دعوات والدي في ذلك اليوم ذكَّرتني بدعائه عندما أُصيب أخي، فهو الآن يدعو لابنته التي خرجت للعمل في صباح ذلك اليوم لتؤمن لنا لقمةَ العيش.
لم تعد أختي إلى البيت بعد انقضاء ساعة من القصف، كما جرت العادة. فهيَ كانت تعود لتُخبرنا بأنه لم يمسَّها أي سوء…
ازدادَ توترُ والدي وقلقه، فطلبَ منّي الخروج والبحث عن أختي في السوق علّها تكون مختبئة في أحد الملاجئ. وبالفعل خرجتُ مسرعةً إلى سوق المدينة حيثُ تتواجد أُختي. لم أجد لها أي أثَر هناك. بدأ شيء منَ القلق والخوف يتسرَّبُ إلى نفسي. “لا يُعقَل أن تكون أُختي قد توفيت” هذا ما بتُ أُحدِّث نفسي به.
ذهبتُ مسرعةً إلى مكان سقوط البراميل لأتأكد أنَّ أُختي لم تكن هناك، ولكن… عربتها الصغيرة كانت مُلقاة على حافة الطريق، بالقرب من مكان البرميل الذي استهدف تلك المنطقة! جُننتُ من هذا المشهد، وبحثتُ كثيراً في المكان علّي أجدُ أختي، لكنَّ أحدهُم أخبرني أنَّ جميع المُصابين تمَّ نقلهم إلى إحدى مشافي المدينة.
هممتُ مسرعةً إلى تلكَ المشفى لأبحث عن أختي، بحثت في كل غرفة من غرفها، وجدت في كلِّ واحدة منها مُصاباً من جرّاء البراميل الغادرة… إلى أن التقاني أحدُ الممرضين الذي يعرفني، وأخبرَني أنّ أختي استشهدت وهي الآن في الطابق السفلي من المشفى!
ركضتُ إلى هناك لأجدها مُستلقية على الأرض، وقد نُفِضَ عن وجهها تعبُ الحياة التي عاشتها. بدت وكأنها نائمة ومرتاحة في نومها. كان حزن وداعها مضافاً إلى كل أحزاني السابقة يكاد يقتلني…
أخبرني الممرض أيضاً، أنَّ أُختي قبل أن تُفارق الحياة، كانت تمسك النقود بيدها وتقول: “هذه لأهلي أعطوهم إياها”! كان عمرها 15 سنة يوم رحلت على باب الله.
كُلَّما تذكرتُ هذه الكلمات، ينفطرُ قلبي على أُختي التي أسموها الناس “على باب الله”، كانت تحمل همّنا وهي تُفارق الحياة.
ريم العيسى (23 عاما) من كفرنبل، متزوجة وأم لولدين. انقطعت عن متابعة دراستها الجامعية وكانت في السنة الأولى تخصص تاريخ، وذلك بسبب الأوضاع الأمنية.