وانتهت قصة عائلة تحت البراميل المتفجرة
عمّ الخراب كل أرجاء الزبداني. لم يبق صالحاً للعيش سوى الأقبية وبعض الغرف في الطوابق الأولى من أبنيتها السكنية. الماء والكهرباء من الذكريات، ووسائل الاتصالات الوحيدة المتوفرة هي قبضة اللاسلكي المعروف بالورور. كانت تلك الأجهزة منتشرة بين الناس يتابعون بواسطتها ما يجري حولهم، خصوصاً ما يتعلّق باستنفارات الحواجز أو غارات الطيران المحمل بالبراميل والصواريخ.
في إحدى ليالي الزبداني المظلمة التي اعتدنا عليها، صدح جهاز اللاسلكي بنداءات الحرس التابع للمجلس المحلي والذي يتولى نشر الأخبار ومتابعتها «طيارة قطعت التكية باتجاه الزبداني» مع سماع هذا النداء بدأ الأهالي بالهرولة من جهة إلى أخرى ومن الطوابق إلى الأقبية. أثناء رحلة يجب التنبه لضربات مدافع الحوش والمعسكر أو دبابة حرش بلودان وهاونات وادي قاق ورصاص حاجز العقبة. وهي أسماء لأخطر الحواجز المحيطة بالزبداني وأشدّها فتكاً بأرواح المدنيين.
يتكرر النداء «الطيارة فوق الزبداني دخلت الأجواء» ما تزال الحركة سريعة مسموعة في الشوارع المظلمة الخالية من أي ضوء. حتى القمر حجبه دخان القذائف وغبار القصف. في الزبداني عليك أن ترى ما حولك في عتمة موحشة وكلما اشتد الظلام كنت بأمان أكثر.
البعض لم يستطع الخروج من بيته لأنه سمع النداء الأخير للتو فكان الخيار الأنسب اختيار غرفة من منزله أقل عرضة للاستهداف. خالد وزوجته وابنتيه ماسة وجنى كانوا من أصحاب الحظوظ القليلة. لم يسمعوا النداء، ولعلّ القدر قد كتب لهم أن يعيشوا هذه المأساة.
كانت جنى وشقيقتها ماسة قد طلبتا زيارة والدهما خالد، فقد مضت أيام طويلة وهو بعيد عن العائلة بعد نزوحها قبل عام الى بلدة بلودان المجاورة . كانت ماسة (5 سنوات) حزينة دوماً فهي تحب والدها، وتكره الابتعاد عنه. ظروف النزوح جعلتها تفكر دوماً وتسرح بعيداً عن كل ما حولها. نضجت وأصبحت أكثر وعياً رغم سنواتها القليلة وتعلمت أن تكتب بابا وترسم له وردة. لبّت الأم طلب ابنتيها وجاءت إلى منزلهم في الزبداني، لتطفئ نار الشوق وتجتمع الأسرة معاً، يأكلون ويمرحون ويركضون ويزقزقون كالعصافير التي عادت للتو من الهجرة وتفرح بأزهار الربيع فتشمها وتضمها وتتذوق رحيقها. هكذا كانت ماسة وأختها الصغرى جنى ووالدتهما لا تسعهم الفرحة فهم اليوم عائلة واحدة من جديد.
لكن أصوات النداءات على الأجهزة لم يكد يهدأ، فالطيران ليلتها حلق في سماء الزبداني محملاً بالحقد والكره. أربعة براميل كانت جاهزة لتنهي حيوات الناس والأطفال في الأقبية المكتظة بالناس والظلام الذي يكسره ضوء صغير (بصيص ضوء الولاعة) فقط.
أذكر يومها أننا هرعنا الى ملجأ قريب لتقليل أضرار القصف. فهو قبوٌ مهجور متآكل الأطراف لعلّه يحمي أرواحنا والجميع يتمتم «يا رب سلم ..الله أكبر، يا رب».
بينما بقيت جنى وماسة يومها مع والديهما في منزلهم المتهالك. يعلو صراخهم مع اقتراب الطائرة المحملة بالموت، والأم تحضن وتحاول أن تحمي صغيرتيها بينما يحاول الأب إبعاد طفلتيه عن الأبواب والنوافذ وايجاد المكان الأقل خطورة.
يعلو صوتها وتقترب، هديرها ملأ المكان، تقترب تارة وتبتعد تارة، ولا صوت آخر يعلو سوى تراتيل وتسبيحات الخائفين راجين الله حمايتهم. ابتعد الصوت قليلاً عن قبونا. تمتمت خائفة “هل نجونا؟! ” لكن الرعب مازال قائماً يشتد صوتها فجأة ويصرخ الحارس على جهاز اللاسلكي “الطيارة رمت، الطيارة رمت، اللهم سلم”. نغلق آذاننا، نحاول نطق الشهادة نتشبث ببعضنا البعض. نرجو الله، نتوسل بكل شيء، لا نريد الموت.
أتخيّلهم في تلك اللحظات، ماسة في حضن والدها، والأم تهدئ جنى التي تصرخ خوفاً من الطائرة. لحظات مرت كساعات طويلة. أتخيّلهم وقد صمتت جنى صمتاً أبدياً وماسة قبّلت والدها ونامت نوماً هادئاً لم تستيقظ بعده. كانت البراميل قد سقطت على منزلهم وأحرقت كتبهم وألعابهم . ودمرت كل جميل من حولهم وخطفت روحي عصفورتين كانتا تحبّان والدهما ومنزلهما.
يحين هرع الجميع إلى المكان، بحثاً عن ناجٍ هنا أو هناك. كانت العائلة مع أطفالها تحت الأنقاض؛ تم سحبهم جميعاً ونقلهم الى المشفى الميداني الوحيد. كانت الطفلتان قد فارقتا الحياة، بينما بقيت الأم والأب لساعات في غرفة العمليات. كتب لهما الله أن يعيشا مأساة فقدان الأحبّة. أربعة براميل قضت على فرح الطفولة وحولت الأحلام إلى رماد، وفرح والدين إلى حزن دائم. فالأب أصيب بالشلل، ومازالت الأم تعاني من الإصابة النفسية أكثر من الإصابة الجسدية على فداحتها.
هذا ما حدث في 24 أيار/مايو 2014، قبل شنّ الحملة على الزبداني، التي كان يقطنها 2500 مدني أما اليوم فقد أصبح يقطنها نحو 140 مقاتلاً فقط وتحولت لكتلة ركام ضخمة. وفقدت كل معالمها بفعل البراميل وغارات الطيران الحربي. انتهت قصة أسرة سورية، ومثلها العشرات من القصص كتبتها البراميل وخطتها بلحظات. وطوت تحت التراب أرواحاً غضة لم تر من الحياة شيئاً، ولم تطلب إلا حضناً دافئاً وأقصى أحلامها قطعة حلوى ولعبة صغيرة بعيدة عن الحرب التي لم ولن يفهموا لعبتها القذرة.
نور احمد (26 عاماً) من مدينة الزبداني تخرجت من المعهد الهندسي في دمشق. تعمل كصحفية لصالح عدة وكالات إخبارية، الى جانب عملها كمعلمة للاطفال السوريين في لبنان. بدأت نشاطها الثوري منتصف العام 2012 كمحررة وكاتبة لمجلة اوكسجين الصادرة عن الزبداني.