والآن أعود وأكرر: الشعب يريد إسقاط النظام
حلب، تلك المدينة التي قيل أن الحراك الشعبي تأخر فيها، أمّا أنا فأقول أبداً لم يكن كذلك، على الأقل من وجهة نظري.
أعيش بمدينة حلب، في منطقة تحت سيطرة النظام ، حيث يصعب التحرك والعمل لصالح الثورة. كنت أخرج خلسة من المنطقة للوصول إلى المناطق الساخنة في المدينة مثل بستان القصر، المرجة، طريق الباب. كنت أنشط في مجال الإغاثة والمرأة والحراك السلمي.
بيتي في حلب هو المكان السري الذي يشهد كتابة اللافتات وطباعة المناشير التي كان يتم توزيعها في المناطق بشكل سري للغاية …
كنت أشعر بالخوف كثيراً من افتضاح المكان، خاصة وأني ام لطفلين فقدا والدهما، وأنا المسؤولة الوحيدة عنهما. عائلة زوجي موالية جداً للنظام، ومؤيدة بشكل شرس لبشار الاسد، وما زالت كذلك حتى الآن.
مؤمنة أنا بالثورة وبأوان الخروج ورفض الظلم والديكتاتورية والمطالبة بكرامة الانسان وحريته. كنت أشعر بالتحدي لعائلة زوجي وللسكان المؤيدين في المنطقة، وللشبيحة والأمن المنتشر بكثرة في المنطقة. أبحث عن طرق كثيرة للتحايل على الحواجز والهروب بما أحمل من منشورات مطوية في ثيابي، او بأقراص مدمجة أو بفلاشات او بكروت ذاكرة، التي تحمل نتاج عمل استغرق مدة أيام متواصلة وتعب وأرق وتوتر وخوف…
كان من المقرر سفري إلى مدينة منبج، للقيام بالتنسيق مع النساء هناك، ونقل مخططات وآليات عمل النشطاء في حلب الى نشطاء منبج، وفعلا اجتزت أغلب الحواجز بأمان، مصحوبة بالقلق والخوف والتوتر، وصلت إلى منزل أصدقائي في المدينة…
كان البيت الذي أتواجد فيه من أكثر البيوت استهدافا لكونه يقع فوق مشفى. ذاك المشفى الذي تحوي قبوا لمعالجة الجرحى والمصابين من الجيش الحر والكتائب المسلحة.
في ذلك اليوم لم تهدأ طائرات الميغ التابعة للنظام في دمشق. قصفت في أكثر من مكان، كانت حصيلة القصف أكثر من 20 شهيداً من المدنيين العزل. ذهبنا جميعا لرؤية مكان القصف وإسعاف الجرحى ونقل الشهداء ومواساة ذويهم. تكرر القصف بعد ساعتين وبعد أربع ساعات. شعرت بحالة تشنج غريبة وألم بدأ يتصاعد رويداً رويداً، كنت أعاني صحياً من الحصى في المرارة، ولكن لم أشعر قبلا بأي نوعٍ من التشنج باستثناء ذلك اليوم.
في مدينة منبج، كان هناك جهاز إنذار ينطلق بمجرد رصد أي طائرة في الأجواء. كانوا يطلقون على صفارات الإنذار هذه إسم “العنّانة”. تلك العنّانة فعلت بي من الخوف والتشنج ما لم تستطع الطائرة فعله … ما إن يلعلع صوت العنّانة حتى تبدأ حالة التشنج بشكلها التصاعدي ويشتد الألم بشكل غريب.
كنت أخجل بداية من البوح بألمي قياسا بما نشهده من كوارث. هناك من فقدت إبنها أو زوجها أو أبيها أو أخيها … ولكن حدث ما لم أستطع كتمانه أبداً.
الساعة الخامسة عصراً أصابتني حالة التشنج. اشتدت واشتدت. تم نقلي بسيارة الأصدقاء لأقرب صيدلية لأخذ حقنة مسكّن. تلك الحقنة التي لم تكن متوفرة في أكثر من أربع صيدليات. وجدناها، لكنها سكّنت الألم لمدة نصف ساعة لا أكثر. لم يكن هناك أطباء سوى بالمشفى الميداني المستهدف أصلاً.
ذهبنا إلى المشفى الميداني حيث جاء تشخيص الطبيب بأنني بحاجة لعملية استئصال للمرارة بشكل عاجل. على سرير المرضى وبغرفة العمليات، وبشكل سريع مددت على السرير وألبست ثوب العمليات وفوراً تم تخديري بشكل تام.
أذكر بان الطبيب قال لي “قولي يا رب”، فقلت يا رب وغبت تماما عن الوعي. بعد فترة لم أدرك كم طالت بدأت أشعر وأسمع كلام الاطباء، “لك جيب المولدة راحت الكهربا بسرعة، طفي الاضوية الواضحة مشان ما تقصف الطيارة هون، بسرعة هات ابرة مخدر تانية بلشت تصحى”. وبدأت اشعر بالألم، هناك ما يحفر في بطني وصرتي، بدا لي جسمي وقد تورّم كثيراً وانتفخ. الأطباء فوق رأسي يعملون بسرعة وتوتر … سمعت صوت الطائرة تقصف مجدداً. نطقت بمفردات غير مفهومة، كما قيل لي لاحقاً، وبأنني قلت أن الطيارة هنا، ثم غبت مجدداً عن الوعي ….
انتهت العملية، واستؤصلت المرارة وعدت إلى البيت مع كيس من الأدوية.
في اليوم الثاني شعرت بألم شديد في ظهري، نظرت في المرآة لأرى حرقاً بطول عشرة سم وعرض خمسة سم. خفت كثيرا منه، سألت عن سببه فقيل لي هذا بسبب انقطاع التيار الكهربائي وأن الصاعق عاد عند استعمال المولدة وكان حاميا كثيرا فسبب ذلك الحرق.
حتى الآن هنالك ندبة في ظهري، إنها ندبة الثورة الجسدية … أذكر هذه الأيام تماما وأتحسس مكان الندبة بألم روح من اتعبتها الذكريات.
استطعت بعد تعافيي أن أتابع عملي مع النساء وأقدم ما أومن به لهن، وما وضعن ثقتهن بي لتحقيقه.
سأكمل الطريق … رغم الصعوبات، رغم الألم، رغم الإحساس بالعجز، كرامة للذين رحلوا وتركوا ندباً في روحنا وفي ذاكرتنا.
وأعود وأكرر “الشعب يريد اسقاط النظام ….” هذا ما أومن به حتى الآن.
مودتي