هل تريد الإنشقاق يا إدلبي؟
من حي بستان القصر في حلب. صور من حلب بعدسة: مجاهد أبو الجود
في 6 حزيران/يونيو 2012 قام شبيحة النظام بارتكاب مجزرة في بلدة القبير في ريف حماه… حيثُ قتلوا أطفالاً مع عائلاتهم بأبشع الطرق. على أثر المجزرة، قرَّرَ زوجي مع عدد من رفاقه الإنشقاق عن النظام المجرم، فهم عناصر في جهاز الشرطة التابع لهُ…. ويجب أن ينشقّوا! لأنَّ ضمائرهم لم تعد قادرة على احتمال جرائم النظام.
رفاق زوجي كانوا يسكنون في حارتنا في المسلمية شمال حلب. بدأوا بترحيل عائلاتهم تحضيراً للإنشقاق بشكلٍ سري… أما أنا وزوجي، فقد قررنا بيع منزلنا الصغير، علّنا نستطيع تدبير أمورنا بعد الإنشقاق، فهو سيخسر وظيفته… وطريق سفرنا هذه المرة لا رجعة فيه، حيث ننوي الفرار إلى قريتنا حيش في ريف إدلب.
للأسف شاعَ خبر بيع منزلنا في الحي، وشاعت معهُ الظنون حول نية زوجي الإنشقاق، وذلك بعد أن سبقهُ إثنان من رفاقه إلى الإنشقاق. كنت أتنّكر للأمر وأقول: “زوجي لن ينشَق”! تنكّرتُ خوفاً عليه من بطش النظام… أُريده أن ينشق لا أن يُعتقَل…
نجحنا ببيع منزلنا، لكن قبل أيام من تسليم المنزل لصاحبه الجديد، لم يعد زوجي من دوامه في الوقت المُعتاد. اتصلت به، ووجدتُ أنّ جواله مغلق! بدأت المخاوف تعصف في رأسي: “هل اعتقلوه؟ هل قتلوه؟ يا رب لطفَك”!
استمرَّ غياب زوجي عن المنزل ثلاثة أيام… مَن يتخيّل ذلك؟! ثلاثة أيام، لا نعرف عنهُ شيئاً…
بعد ثلاثة أيام عادَ مُنهكاً… كان موقوفاً في فرع الأمن السياسي، ليتمّ التحقيق معه عن بيع منزله.
سألوه: “هل ستلتحق برفاقك الخوَنة، ولذا بعتَ منزلك؟”
حققوا معهُ بأساليبهم المعروفة، لكنه أصرَّ على الإنكار، وأخبرهم أننا بعنا المنزل لنشتري آخراً في المدينة، خوفاً من اختطافه وهو في طريقه إلى العمل، حيثُ كانت تلك الفترة قد بدأت فيها عمليات الخطف على الطرقات.
تركوه لكنه أصبحَ مُراقباً… لهذا اضطررنا أن نطلب من الشخص الذي اشترى منزلنا أن نمكث فيه لأيام، ريثما نقوم فعلاً بشراء منزل صغير في حلب، كي تصدق روايتنا!
واشترينا منزلاً في حي المشهد وانتقلنا إليه بعد أسابيع، وكان قد بدأ شهر رمضان… بعد أيام من انتقالنا، خرجت مظاهرة ضد النظام في حي المشهد، وأُلقيت ثلاث قذائف مدفعية على المنطقة… وخلال ساعات خلا الحي من سكانه، ونزحوا إلى الأحياء المجاورة.
انتشرت إشاعة أنَّ الشبيحة سيداهمون الحي في تلك الليلة، وقُطعت الكهرباء عن الحي! ظلام وترقب مخيف… ولا نستطيع الذهاب لمكان، فلا نملك سيارة ولا نعرف أحداً نلجأ إليه خارج الحي! تخيلتُ الشبّيحة يدخلون بين الحارات المظلمة، ويقتلون أولادي كما قتلوا أبناء بلدة القبير!
بقينا حائرين حتى الصباح… لكن لله الحمد، لم يدخل الشبيحة… إنما لا تستطيع ألا تترقّب دخولهم! بعد ساعات، جاءت مروحية النظام تلقي القذائف على المنطقة… اسودت الدنيا في عيوننا! نحنُ عالقون!
نجحت محاولة زوجي بتأمين سيارة تقلنا إلى خارج الحي! أسرعنا بالخروج باتجاه السيارة التي كانت تنتظرنا في نهاية الشارع، وكنا لا نحمل سوى حقيبة صغيرة… مشينا ملاصقين للجدران، خوفاً من المروحية… حينها سمعنا دوي انفجارات قوي، من جهة حي السكري المجاور… وأخيراً وصلنا إلى السيارة، ومضينا في الحارات الضيقة… باتجاه حي الحاضر الواصل بين حلب وحماه.
على الطريق، صادفنا حاجز طيّار فُجائي للجيش، فأوقفنا وأداروا العناصر بنادقهم إلينا…ضمَمتُ أطفالي الخائفين، ونزل زوجي ليخبرهم أنه عنصر في الشرطة وزميل لهم! وبأنَّ كل الحكاية أنهُ يريدنا أن نخرج من منطقة “يتسلَّلَ إليها المسلحون”. هذه المرة أيضاً وقعنا في المأزق…
ابتسمَ لهُ الضابط ساخراً وقال:
“أهلاً وسهلاً يا زميل! لكن هل تريد الإنشقاق يا إدلبي؟!”
أيضاً أنكرَ زوجي الأمر… وسمحَ لهُ الضابط بأن نعبر أنا وأبنائي، لكن لم يسمح لزوجي بالخروج…
وبقيَ زوجي عالقاً… ولا يستطيع إلا أن يلتزم بدوامه…
وصلتُ إلى حي الحاضر، واتصلت بأهلي، فأخبروني الخبر السار، أنهُ في اليوم التالي سيأتي شاب من الثوّار ليأخذنا إلى بلدتي حيش… في اليوم التالي جاء الشاب بسيارة زراعية، وأخذني وأولادي من حي الحاضر باتجاه بلدة حيش… مررنا بين البساتين، وعلى أوتستراد دمشق – حلب… المقابل لبلدتي… كان الرصاص يزخُّ كالمطر… لم نعرف كيف وصلنا… ضممتُ أهلي وبكيت… ولم يصدّقوا أنّا وصلنا سالمين!
بعدها بفترة قامَ أحد قادة كتائب المعارضة في القرية بالتنسيق مع ثوّار حلب، لانشقاق ثلاثة عناصر شرطة… وكان زوجي من بينهم…. انشقّ زوجي بعد أن تأمَّنَ وصولي وأولادي إلى قريتنا… بعد كل هذا التعب، استطاع زوجي الإنشقاق بتاريخ 1 آب/أغسطس 2012.
صحيح أننا لم نعد تمتلك شيئاً، ومنزلنا في حي المشهد في حلب لم نستطع بيعهُ ولا اصطحاب شيء من الأثاث أو الملابس… لكننا اصطحبنا معنا ما هو أهم… كراماتنا.
نور الهدى إدلبي (39 عاماً)، متزوجة منذُ 18 عاماً، وأم لثلاثة أولاد. حاصلة على شهادة البكالوريا – الفرع الأدبي.