هدنة جنوب دمشق: بين مطرقة الجوع وسندان الرضوخ
ريان محمد*
(ببيلا، سوريا) – تضاربت المواقف والتسميات، المتعلقة بالهدنة التي أعلنت في بلدات جنوب دمشق في نهاية شباط/ فبراير، بين النظام ومقاتلي المعارضة. ففي حين أعلن عنها النظام على أنها بداية مصالحة وطنية، بمرافقة حملة إعلامية من قبل وسائل الإعلام الرسمية تتحدث عن إعادة تلك المناطق إلى “حضن الوطن”، اعتبرها المقاتلون هدنة فرضها “الجوع”.
كذلك تباينت مواقف أهالي تلك المناطق، بين موافق على الهدنة درءاً للموت جوعاً، وآخرين قالوا إنهم يفضلون الموت على أن يخسروا كرامتهم وحريتهم.
“أن يكون أطفالك جياعاً، وأنت وحيداً في وجه سيل من النار، بلا سند أو معين، سترضى بالهدنة إن ضمنت أن تحصل على ما يمنع عن أهلك الموت”، يقول أبو سامر، من أهالي ببيلا جنوب دمشق. ويضيف: “المواد الغذائية والطبية أصبحت شبه مقطوعة، وإن وجدت فإنها تباع بأسعار خيالية. وصل كيلو البرغل إلى ثمانية آلاف ليرة، والأرز إلى عشرة آلاف، ربطة الخبز إلى ألفي ليرة، ولا عمل يمكن أن يدر عليك ما يكفيك إلا القتال”.
على إثر الهدنة تم تشكيل حاجز مشترك بين مقاتلي “الجيش الحر” المسيطرين على البلدات وبين القوات الحكومية وقوات “الدفاع الوطني” على مدخل مدينة ببيلا، في حين بقي التواجد داخل البلدات لمقاتلي “الجيش الحر”، الذين احتفظوا بأسلحتهم، وحافظوا على إبقاء العلم الأحمر على بناء البلدية.
وشهد المعبر مع فتحه حركة دخول وخروج مئات الأشخاص، معظمهم من أهالي المنطقة، الذين دخلوا إلى المنطقة للاطمئنان على منازلهم ومحلاتهم.
ويتابع أبو سامر “كنا نحصل على بعض المال من مكاتب التحويل، ولكن لم يعد باستطاعة أهلنا تحمل تلك النفقات وهم الذين يواجهون كذلك الغلاء الفاحش وقلة العمل، فاقتصر طعامنا على بعض ما كنا نحصل عليه، إضافة إلى الحشائش وأوراق الشجر، ومشتقات الحيوانات، التي لم يقتلها القصف أو الجوع، وهي قليلة جدا”.
يشار إلى أن مكاتب التحويل المتواجدة في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، تعمل على تحويل المال من المناطق التي يسيطر عليها النظام إلى مناطق المعارضة وبالعكس مقابل عمولة محددة، بشكل سري عبر شبكات وأشخاص في مناطق النظام، كما تعمل هذه المكاتب على تحويل الأموال من خارج البلاد.
بالمقابل، قال أبو خالد، من أهالي ببيلا، “كيف سأواجه أبني وأخي والمئات من أهل بلدتي، الذين قضوا تحت القصف، ومئات المعتقلين، وهذا الدمار الكبير، بهدنة ثمنها ربطة خبز”، مضيفا “أفضل الموت على هذا الذل”.
وتابع قائلا “كانت ساحة البلدة تضج بأصوات أبنائها مطالبة بالحرية والكرامة، اليوم الخراب أتى على معظم البلدة وأهلها، فهل نعود للرضوخ للنظام، ليهدر كرامتنا كما أهدر دماء أحبائنا”.
بدوره، قال أبو عمر، الذي عرف عن نفسه “مقاتل من الجيش الحر” في ببيلا، “لقد طال الحصار على مناطق جنوب دمشق، لأكثر من 400 يوم، ولا بوادر لنصرة قريبة أو أي دعم أو إمداد بالمواد الغذائية، في وقت ضاقت الحياة بالمدنيين الصابرين تحت القصف والجوع فكان اقتراح الهدنة هو الخيار الوحيد المتاح لدخول ما يسد رمق الجياع، محاولين منع الموت عن أهلنا”.
وتنضوي عدة كتائب منتشرة في جنوب دمشق تحت راية “الجيش الحر”، منها “الفرقة الثانية” و”الفرقة الرابعة”، و”لواء أبابيل حوران”، و”لواء الحجر الأسود”، إضافة إلى جبهة النصرة، وأكناف بيت المقدس، وابن تيمية، في حين تتواجد “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) في يلدا.
وبحسب أبو عمر “تم الاتفاق مع النظام على هدنة وليست مصالحة، نصت على وقف إطلاق النار ورفع العلم الأحمر على البلدية، مقابل إدخال المواد الغذائية والطبية، إضافة إلى السماح بخروج الحالات المرضية وطلاب الجامعة وإطلاق سراح المعتقلين من أبناء البلدة، وبالفعل رفع العلم على البلدية وقام الهلال الأحمر بتوزيع كميات قليلة من المواد الغذائية، تبقى أفضل من عدمها، في حين لم يحل ملف المعتقلين”.
وحول ما تناقلته وسائل الإعلام عن قيام النظام بإتمام مصالحة في ببيلا و”عودتها إلى حضن الوطن”، قال أبو عمر “ببيلا وأهلها طوال عمرهم هم أبناء هذا الوطن، ولا نريد منه سوى الكرامة، وقد طلب النظام أن تدخل مع الوفد وسائل إعلام، ووافقنا ولم يطل تواجدهم أكثر من ثلاثة أرباع الساعة، هذا كان أفضل الممكن”، نافيا أن “يكون مقاتلو الجيش الحر سلموا أسلحتهم أو أماكنهم لعناصر لجان شعبية موالية”.
وكان الشهر الماضي قد شهد الإعلان عن عقد عدة هدن بين النظام ومقاتلي المعارضة، في برزة والمعضمية والقابون، جمع بينها أساس مشترك هو وقف القتال مقابل إدخال المواد الغذائية والطبية، إضافة إلى إخراج الحالات الإنسانية والطلبة.
وأعلنت منظمة “الهلال الأحمر العربي السوري” في 18 شباط/ فبراير عن توزيع مساعدات تكفي 6200 شخص في ببيلا، عن حيث أوقفت المساعدات، لتعود السلطات في يوم 23 شباط / فبراير، بالسماح للمساعدات الإنسانية بالدخول إلى ببيلا، وذلك عقب يوم واحد من إقرار مجلس الأمن قراراً يقضي بتسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى كافة أراضي البلاد، مطالبا بأن تسمح جميع الأطراف لاسيما السلطات السورية بسرعة مرور المساعدات الإنسانية فورا ودون عائق عبر خطوط الصراع وعبر النقاط الحدودية إلى المحتاجين.
وكانت الأنباء تضاربت حول سيطرة “داعش” على البلدة، الأمر الذي قال عنه، عدد من الأهالي، إن مجموعة من عناصر داعش، قاموا يوم التاسع عشر من شباط/ فبراير بالقدوم من بلدة يلدا، ليدخلوا إلى بناء البلدية في ببيلا، وأنزلوا العلم الذي تتبناه الحكومة وأطلقوا الأعيرة النارية، ورفعوا راية “القاعدة” بدلاً منها، مهددين من يقيم مصالحة مع النظام أنه سيواجههم، قبل أن ينسحبوا إلى بلدة يلدا إلا أن عناصر “الجيش الحر”، قاموا بطرد عناصر داعش، إلى يلدا، علما أن الأخيرة وافقت على الهدنة، بحسب ناشطين في ببيلا.
وعلق ناشط سياسي معارض في دمشق، عرف عن نفسه باسم عماد، بالقول إن “النظام نجح في اعتماده سياسة التجويع عبر الحصار الخانق، للضغط على المناطق المناهضة له… وفي أمكنة أخرى لعبت جغرافيا المنطقة دوراً كبيراً في صمودها، كالغوطة الشرقية، أو قلة عدد المدنيين كداريا، ما جعل (الثوار) الأقدر في التفاوض وعدم الرضوخ لهدنة لا يكونون فيها أنداداً للنظام”.
ويضيف “إن كان النظام استطاع إيقاف إطلاق النار، عبر رغيف الخبز، فهو لم يستطع أن يتصالح مع أهالي تلك المناطق، أو أن يبني الثقة معهم، حيث عمل على عدم إدخال كميات كافية من المساعدات الإنسانية… ما يزيد من حقد الناس على النظام والهدنة سويا”.
وتشهد منافذ “الهلال الأحمر” لتوزيع المساعدات الإنسانية ازدحاما، في حين يتم توزيع سلة غذائية لكل عائلة تشمل على مواد رئيسية، مثل الزيت والبرغل والأرز والمعكرونة والحمص ورب البندورة.
ومن يمر ببيلا يلحظ الدمار الكبير، الذي لحق بالمنازل وخاصة تلك التي تطل على الطرقات العامة، كذلك شبكات الهاتف والكهرباء، في حين بدأ العمل على مد خطوط كهرباء لتلبية الحاجات الملحة، ستوفر التيار لأحياء البلدة بالتناوب.
يشار إلى أن هدنة جنوب دمشق شملت إلى الآن بلدات بيت سحم وببيلا ويلدا، ومخيم اليرموك، في حين ماتزال مناطق التضامن والحجر الأسود والقدم والعسالي تشهد مواجهات بين القوات النظامية ومقاتلي المعارضة، في وقت يقطن هذه المناطق عشرات آلاف المدنيين، يعيشون ظروفاً إنسانية سيئة بحسب تقارير.
*اسم مستعار لصحافي يعيش داخل سوريا.