نعيشُ تحتَ الأشجار…
لم أكترث يوماً لطائرات بشار وأعوانه، لكن بسببها باتت أرواح أطفالٍ صغار، طيوراً في الجنة… لا أخاف على نفسي، إنما يتقطع قلبي خوفاَ على أطفالي فلذات كبدي، وأنا أشاهد عيونهم الصغيرة الخائفة من صوت الطائرات.
لستُ الأم الوحيدة في مدينة إدلب وسوريا على هذا الحال… فمثلي الكثيرات اللواتي أعيتهن حالات النزوح. وأنا أنزح بين أشجار الزيتون التي زرعها الأجداد. خيارنا الوحيد لنبقى صامدين كصمود هذا الشجر المبارك. فنمتلك الصبر ونتمسك بالحياة، لأجل من تبقّي من الأهل والأبناء.
بيدين مرتجفتين، أجمعُ على عجل ملابس أطفالي وما تبقّى من طعام ومواد غذائية، كنا قد حصلنا عليها من منظمات أممية في حياةٍ تزداد مرارة… تقولُ لي صغيرتي تسنيم: “ماما… يجب أن أصطحب معي الألعاب التي أهدتني إياها مُعلمتي!”
لم تكن سوى ساعات قليلة، ليتغيَّر الوضع… من بيوتٍ كنا نسكنها، إلى نازحين تحت أشجار الزيتون… كنتُ قد تعرَّفت على نازحين، تنقّلوا لعدة مرات… جميعهم يبحثون عن الأمان، بعيداً عن نيران طائرات الحقد اللامنتهي.
أضحت أحلامي بسيطة جداً… خيمة صغيرة أو ظل شجرة يأوينا، لأدعو بقلبٍ مكسور زوال ما نحنُ فيه.
في يوم 15 آب/أغسطس 2016، قضينا أول ليلة في حضن الأشجار…
أشعلَ زوجي أبو محمد النار لأُعد لأبنائي طعاماً يسد رمقهم… فهنا تحتاج لمزيدٍ من الصبر لتتأقلم مع حياةٍ بسيطة، تتطلب جهداً أكبر.
أبنائي كانوا قد جمعوا أغصان الأشجار، ووضعوها أمام أبيهم… بضحكتهم الصبيانية وبشوقٍ كبير، لانتظار طعام، لا يكترثون لنوعيته… وكعادتنا في السرّاء والضراء، لا ننسى أن نشارك الجيران، بعض الطعام الذي حضّرناه.
أيامٌ تمضي وأطفالي يلعبون تحت أشجار زرعها الأجداد… يلعبون رغم صوت الطائرات… جلست مع نسوة من مدينتي، أراقب من بعيد ضحكات الصبية، بعد أن صنعتُ لهم أرجوحة تقليدية من حبالٍ قديمة وبطانية مهترئة… وكما تقول جدتي: “إنَّ الله يُبلي الإنسان ويُعينه على ما ابتلاه”
بالرغم من أننا ابتعدنا عن إدلب، إلا أنَّ الطائرات كانت تُشاهَد بالعين وهي تمر من فوق رؤوسنا، ذاهبةً إليها… وما هي إلا لحظات، حتى تتصاعد ألسنة الدخان مشيرةً إلى مكان القصف… فينطلق دعاء جماعي في المخيم الذي أنا فيه، ندعو الله أن يحمي المدينة… فلم ينجِّنا الهروب، قلوبنا ما تزال عالقة في إدلب، تنزف حتى الموت.
يوماً بعد يوم، يزداد عدد النازحين الذين يسكنون خياماً قدمتها جمعيات خيرية… واليوم، جارتي الجديدة أم عبد الرحمن، جهّزت خيمتها وبدت على وجهها ابتسامة
صغيرة… تفاءلت تحت الخيمة، وحمدت الله، قائلةً: “سنصبر… المهم أننا أحياء”.
أشعة شمس الظهيرة الحارقة زادت من المعاناة… فاتجه الأهالي إلى النقاط الطبية القريبة طلباً للإسعافات الأولية، من مسكنات وخافض حرارة، لتحسين وضع الأطفال. الذين لم تعتد أجسادهم الطرية على قساوة البراري وحرارة الشمس، فظهرت بين الأطفال حالات إسهال، نتيجة شربهم من مياه الآبار… عدا عن اللعب بالتراب وغياب الصرف الصحي، حيثُ نعمد لقضاء حاجتنا خلف الصخور وفي العراء.
الكشف التقديري الأخير لفريق تقييم وضع النازحين في ريف إدلب، يقدِّر عددهم بـ 1550 عائلة نازحة في المزارع القريبة من إدلب.
وها أنا الآن أجلس تحت أشجارٍ تعلو أغصانها… مع أبنائي وعائلات أخرى… وعلى ضوء القمر الذي يعتبر رحمة بالنسبة إلينا، فلا تتوفر الكهرباء…
يرتفع الآن صوت بكاء مرير لجارتي أم محمود… صوت نابع من قلبٍ حزين ومكسور، وهي تتذكَّر ركام منزلها الذي خرجت منه على قيد الحياة قائلةً: “الله ينتقم منك يا بشار”.
سما بيطار (41 عاماً) من إدلب، حاصلة على الشهادة الثانوية. متزوجة وأم لأربعة أبناء. عملت في الجمعيات الخيرية لمدة عشر سنوات.