نساء قبل الآوان وطفولة دمرها الجهل والحرب
أنهت رند حياتها منتحرة. ابتلعت حبة فوسفيد الألمنيوم المعروفة محليا بـ”حبّة الغاز”. وسيلة الانتحار هذه أصبحت شائعة جداً في محافظة إدلب في لسنوات الأخيرة، وأغلب الضحايا من النساء. ولم تكن أم حسن (43 عاماً) تتوقع أنها بتزويج ابنتها القاصر ستخسرها إلى الأبد.
رند (15 عاماً)، واحدة من عشرات الفتيات القاصرات اللواتي كنَّ ضحية الزواج المبكِّر، وإن كان مصيرها هوَ الأصعب والأقسى. فتيات غَدون في مواجهة المشاكل الزوجية، في سن أقرب للطفولة، منه إلى تحمُّل مسؤوليات الحياة.
تقول أم حسن: “لم تكن رند موافقة على الزواج منذ البداية، لكنها قبلت بعد أن قمنا بإقناعها أنا ووالدها. تأملنا أنهُ بالزواج ستعيش ابنتنا حياةً سعيدة. خاصة أنَّ العريس وضعه المادي جيِّد، فهوَ يملك محلاً ومنزلاً، أي أنهُ عريس لا يعوَّض في ظل الظروف التي تمر فيها البلاد من فقر وحرمان وحرب”.
يتبيَّن بعدَ الزواج، أنَّ معاملة الزوج لرند سيئة. رند كانت تريد الطلاق، لكنّ والدها حذّرها مراراً من العواقب. فأن تغدو المرأة مطلقة في مجتمعها، أمرٌ مخزٍ ومُحرج سواء للأهل أم للفتاة. وهو ما دفعَ رند للصبر على معاملة زوجها.
تُضيف أم حسن: “كان يغار عليها لدرجة أنه كان يمنعها من الخروج إلا بصحبته، وأجبرها على وضع الخمار.” لكن لم يخطر ببال الأم أنَّ وضع ابنتها النفسي كان يزداد سوءًا بعد مضي عام على زواجها، كما لم تفكر لمرة، أن ابنتها قد تقدم على الإنتحار لأي سبب كان!
بقلبٍ مكسور حزين، لعنت الأم زوج ابنتها الذي دفع بها للانتحار. كما لم يغب عنها أن تلوم نفسها وزوجها، باعتبارهما دفعا رند للزواج. فلعنت أم حسن الفقر والحرب اللذين كانا السبب لتزويج ابنتهما باكراً. مع العلم أنَّ حادثة رند ليست الأولى من نوعها، إنما هناك أربع حالات انتحار أخرى في كفرنبل لقاصرات لم يمض على زواجهن إلا القليل.
ما كان يتخوَّف منهُ والد رند، أي الطلاق، حصلَ لسعاد (17 عاماً) التي تزوجت أيضاً وهي قاصر، وفوجئت بمسؤولية كبيرة ألقيت على عاتقها من النواحي الإجتماعية والأسرية.
تقول سعاد: “عشتُ مع أهلِ زوجي، ولم أكن سعيدة بسبب تدخلهم بخصوصياتي. لذا كانوا يقومون بتحريض زوجي علي.” وتردف سعاد أنَّ زوجها، بدل أن يسعى لإيجاد منزلٍ مستقلٍ يعيشان فيه بعيداً عن المشاكل وتسلط أهله… كانَ يُهينها ويُلقي اللَوم عليها بكلِّ شاردة وواردة. ما دفعها لطلب الطلاق والعودة إلى بيت أهلها.
أم سعاد تقول متأثرة بوضع ابنتها التي أصبحت مطلقة بهذا السن: “لولا أني أرملة ولدي العديد من الأطفال الذين بالكاد أستطيع تأمين احتياجاتهم، لما زوّجت ابنتي باكراً”. وتشير أنَّ معظم الأهالي يزوّجون بناتهن في سن مبكر، مع تراجع التعليم وتوقف غالبية الفتيات عن الذهاب للمدارس بسبب الأوضاع الراهنة. فلا يجدون أفضل من أن يكون لبناتهن أزواجاً يتكفلون بهن وبنفقاتهن… هذا إن نجح الزواج.
ويرجع الشيخ أبو عبدالله (45 عاماً) “تزايد المشاكل الأسرية وبالتالي تزايد نسبة الطلاق، لأسباب مادية، أو تعدد الزوجات، وأحيانا صعوبة تحمل الزوجة لعصبية الزوج الناتجة عن سوء الأوضاع التي تعاني منها البلاد، وهناك مشاكل تتعلق بصغر سن الزوجين وعدم قدرتهما على تحمل أعباء الحياة الزوجية والأسرية”. ويبدي الشيخ أبو عبدالله عادة استعداده للتدخل للإصلاح إذا ما طلب منه ذلك، مما قد ينتج عنه إيجاد حل لبعض المشاكل، ولكن الأكثرية يلجأون للطلاق بشكل مباشر عن طريق المحاكم الشرعية وهنا لا يمكن له أو لغيره التدخل بحسب قوله.
أبو محمد (38 عاماً) أحد موظفي المحكمة الشرعية في كفرنبل يقول “ثمة قضايا طلاق عديدة تصلنا، يسعى القاضي إلى حلها جميعها وبمدة زمنية قصيرة سواء بالوصول إلى صلح يرضي الطرفين، وإما بالطلاق وتحصيل حقوق الزوجة، هذا في حال تعنت الطرفين واصرارهما على الإنفصال”. ويشير إلى أن المحكمة الشرعية لا تتدخل في قضايا الانتحار التي حدثت وتحدث إلا إذا كان هنالك شبهة بأنها جريمة قتل وذلك في حال تقدم أحدهم بشكوى.
توقفت علا (16عاماً) عن الدراسة ولم تتمكن من تقديم إمتحانات الشهادة الإعدادية في المدارس الحكومية، بسبب خوف أهلها عليها من حواجزه على طريق حماه، حيث يتوجه الطلاب لتقديم الإمتحانات. كذلك فإنَّ علا ليست مقتنعة بمدارس الإئتلاف الغير معترف بها. فتركت دراستها وتزوجت.
تقول علا: “بالرغم من أنّ زوجي رجل جيد ولست بنادمة على الزواج منه، إلا أني أتحسَّر على ترك دراستي، خاصة أني كنتُ متفوقة.” لكن علا تستعيد الأمل، وتتوعد أنها ستكمل دراستها في المستقبل حين تنتهي الحرب، حتى لو كان لديها أطفال.
أميرة (15 عاماً) تزوّجت برغبةٍ ذاتية منها. أسرتها متصدعة، أمها منفصلة عن أبيها والأب متزوج بأخرى. هذه الأسرة التي انعدمت فيها روح المحبة والثقة والأمان، دفعت أميرة للتمسك بأي خيط خلاص. تمثّلَ هذا الخيط بالزواج في سن مبكر، حتى لو لم تكن أميرة مستعدة للزواج، وهناك فارق سن كبير، بينها وبين زوجها.
حول ظاهرة الزواج المبكر للقاصرات تتحدث المرشدة الإجتماعية سمية الحمادي، فتربط الظاهرة التي تزايدت في ريف إدلب في الآونة الأخيرة، بجهل الأهل وعدم إدراكهم لما سيكون مصير الفتاة التي ستواجه تحولاً سريعاً في حياتها. وعلى الأغلب ستعاني من الناحيتين النفسية والجسدية، وحالات الإنتحار التي حدثت مؤخراً أكبر دليل على ذلك، كما تقول الحمادي.
وتوضح أنّ الفتاة تشعر بالخوف من مستقبل زواجها، بكيفية التعامل مع الزوج والمجتمع وحتى بكيفية تربية أطفالها. ما يجعلها ضعيفة مهزوزة من الداخل، ينتابها شعور بأنها مظلومة ووحيدة في مواجهة مصيرها… خاصة أنها ستواجه مشاكل زوجية لا تحصى.
تقول الحمادي أنَّ الأهل يعتبرون زواج ابنتهم القاصرة تحصيناً لها، إلا أنَّ ذلك يكون مغايراً لتوقعاتهم. فزواج القاصرة يكون تدميراً لبراءتها كطفلة، وفي معظمه يغدو زواجاً فاشلاً، نظراً لكثرة حالات الطلاق وتزايدها مؤخراً.
زواج القاصرات كان موجوداً قبل الحرب، لكن فاتن السويد (30 عاماً) المجازة في الإرشاد النفسي، تتحدث عن أسباب تزايده: “العوز والفقر، عائلة كبيرة وسط الظروف القاسية التي تشهدها البلاد، تفاقم البطالة، غياب المعيل، تدهور التعليم، منع الأهل بناتهم من الخروج إلى أي مكان خوفاً من الإستهداف بالقصف أو الخطف فيكون الزواج أوفر الحلول”!
وتتساءل السويد: “كيف لهذه القاصر أن تكون تلكَ الأم وهي الطفلة التي لا تملك المعرفة والوعي اللذين يؤهلانها لتحمل هذه الأعباء، خاصة في ظروف الفقر والنزوح وعدم الإستقرار؟”
وتنصح السويد الأهل أن يسعوا لتمكين بناتهن، “عبر التعليم أو تعليمهن المهن أو أي شيء يمكن أن يعتمدنَ عليه، إن غدرَ بهنَ الزمن يوماً”.