نبات شوكي صغير… يُنقذ بعض أهالي ريف إدلب!
عبرَ طريق بيتهم الترابي، يخرج الأطفال الثلاثة سعيد أمجد وفرح، في الصباح الباكر، إلى الوادي. وذلك من أجل جمع ثمار نبتة القبّار أو الشفلَح. وهي نبتة شوكية، يتسبّب جمع حبّاتها بجروح صغيرة، تظهر وبكثرة على أيدي وأصابع الأطفال الصغار في ريف إدلب…
الأخوة الثلاثة، لا يقطفون ثمار القبّار بهدف التسلية وتمضية الوقت، إنما بدافع العوز والفقر، لجني رزق عائلتهم بعد أن أقعد المرض والدهم طريح الفراش. وعلى الرغم من شقاء العمل، إلا أنه الملاذ الوحيد لهؤلاء الأطفال لتحصيل قوتهم اليومي بعرق جبينهم، في ظل ظروف الحرب القاسية.
ونبتة الشفلح بدأت تلقى رواجاً كبيراً في السنوات الأخيرة. ويقول المهندس الزراعي أبو سمير (43 عاماً) من معرّة النعمان: “القُبّار أو ما يُسمّى الشفلح، شجيرة تعيش لأكثر من عشرين عاماً، ويتراوح ارتفاعها بين 50 و80 سم. وللقبّار جذع قصير تتفرّع منه أغصان صغيرة، وجذور عميقة، تصل إلى مترين… الأمر الذي يفسّر إمكانية نموها في الأراضي الكلسيّة، وهي تتحمّل المناخ شبه الصحراوي.تنمو القبّار في أرضٍ قاحلة، وعلى جوانب الحقول، وحول التجمّعات السكنية وقرب الجدران القديمة، وكذلك في الأماكن المهجورة. وتعطي أزهاراً وردية بيضاء ذات رائحة عطرة، وثماراً عنبية ذات لون أخضر. وبعد نضوج هذه الثمار تنشطر، كاشفةً عن لب أحمر يحتوي على كمية كبيرة من البذور.”
ويؤكّد أبو سمير أنّ المزارعين في السابق، كانوا يحرقون هذه النبتة البعلية، لاعتقادهم بأنها تضر بمزروعاتهم. لكن سرعان ما تبدّل الحال حين اكتشفوا ما لها من فوائد طبية وغذائية، وهذا ما دفعهم إلى المحافظة عليها. وقد حققت رواجاً كبيراً في السنوات الأخيرة، لأنها تدخل في الصناعات الغذائية، وفي توفير منتج يُصدَّر إلى الخارج.” وينبه أبو سمير: “إلى أن َّنبات القُبّار يُعتبر المأوى المفضّل للأفاعي، بسبب غزارة وكثافة أوراقه، لذلك يجب توخّي الحذرَ عند الإقتراب منه!”
يتحدّث الطبيب أكرم (39 عاماً) من قرية جرجناز في ريف إدلب، عن فوائد النبتة ويقول: “القبّار الصحراوي بمثابة صيدلية طبيّة علاجية لعدد كبير من الأمراض، منها فقر الدم وتنظيف الكلى وتصلّب الشرايين والروماتيزم واضطرابات الجهاز الهضمي. كما أنها تنشِّط وظيفة الكبد والطحال. وتساعد البراعم الزهرية في الوقاية من الماء البيضاء في العين. أما الجذور، فتُستخدم في صناعة بعض المستحضرات التجميلية.”
وعن آلية تحويل القُبّار إلى مُنتَج، يُحدّثنا أحمد الديّوب (48 عاماً) من قرية كفرومة، وهو مالك لأحد معامل إنتاج القبّار، فيقول: “نشتري كميات كبيرة من ثمار القبّار عن طريق التجّار المنتشرين في مناطق مختلفة من أرياف إدلب وحماه وحمص. ولدينا ورشات تعمل بما يزيد على مئة عامل، من مختلف الفئات العمرية. لذلك فالقبّار، يؤمّن مصدر دخل لكثير من العائلات في تلك المناطق، وبشكل خاص في ريف إدلب.”
وعن مراحل تحضير مُنتَج حُبيبات القبّار، يقول الديّوب: “بعد الإنتهاء من موسم قطاف القبّار، يتم تجميعه في مستودعات خاصة، ثمّ تتم غربلته وتنظيفه، لتبدأ عملية الفرز حسب حجم الحبيبات… ثمَّ يقوم العمَّال بوضعه في براميل بلاستيكية مضافاً إليه محلول الماء والملح. وبعد ذلك يُصدّر إلى الدول المستوردة، وفي مقدّمتها دول الخليج وبعض الدول الأوروبية. ليُستخدم في ما بعد في صنع موادٍ أولية لبعض الأدوية، وقسم آخر لصناعة المخللات، ولصناعة التوابل لبعض الأطعمة من أجل إضفاء نكهة طيبة عليها… هذا وتُعتبر أزهار القبّار من أفضل الأزهار التي يلجأ إليها النحل لإنتاج أفضل أنواع العسل. وبالنسبة لسعر القُبّار، كلّما كبُر حجم الحبة انخفض السعر، ويصل سعر الكيلوغرام الواحد إلى حوالي 800 ليرة سورية (قرابة الدولارين). ”
أم سليم (34 عاماً) من كفرنبل، تعمل في فصل الصيف مع أولادها في تحصيل لقمة العيش، خصوصاً بعد وفاة زوجها في إحدى غارات النظام على سوق المدينة، وتقول
أم سليم: “أنا لا أحتاج شهادة كي أعمل في جمع ثمار نبتة القبّار… ولا إلى امتلاك أرض كي أزرعها، فالنبتة حرجية تنبت من تلقاء نفسها. لذلك أخرج مع أولادي منذ الصباح الباكر لنقطف حبوب هذه الثمرة، قبل أن تصبح زهرة. وبعد ذلك نسلّم ما جمعناه للتاجر، مقابل مبلغ زهيد، مقارنةً بالتعب الذي يصيبنا والمخاطر الكبيرة التي نتعرض لها تحت وطأة الحر الشديد، ناهيك عن خطر الأفاعي التي تكثر في مناطق تواجد هذه النبتة.”
وتقول أم سليم بحسرة: “كلما أتى صباح يوم جديد ورأيت الأطفال يركضون للعب، أشعر بالحزن العميق على أولادي الذين أجبرتهم الظروف أن يتحمّلوا مسؤولية كبيرة تفوق قدراتهم منذ نعومة أظافرهم… فيخرجون في الصباح إلى الحقول”. وتواسي أم سليم نفسها بالقول: “لكننا لا نملك للحياة سبيلاً، إلا بذلك العمل الذي يدر علينا بعض المال، فيُجنّبنا انتظار المساعدة من الآخرين.”
المهندس أبو سمير يقول: “عائلات تقاسي الأمرّين في ريف إدلب، للحصول على نقود معدودة تغنيها الحاجة، بعد أن أفقدتها الحرب مصدر رزقها. ليظل أفرادها يلتقطون أنفاس الحياة بمساعدة هذا النبات الشوكي الصغير المِعطاء، والذي تترك أشواكه آثارها على أناملهم، دليلاً واضحاً على المعاناة… لكنهُ ينقذهم من العوَز…”
الطفلة عبير إبنة العشر سنوات، تكون في غاية سعادتها، عندما تبيع ما تجمعه من ثمار القبّار. فتضع النقود في حصّالتها…
تضعها، علّها تجمع منها مبلغاً يكفيها، لشراء بنطال، أو شراء بعض الأقلام والدفاتر للعام الدراسي الجديد…
سونيا العلي (33 عاماً)، من معرّة النعمان، متزوجة وأم لأربعة أبناء. تحمل إجازة جامعية في الأدب العربي، وتعمل كمدرّسة.