ناي حلبي حزين في غازي عنتاب

يتجول أحمد في الشوارع باحثاً عن قوت يومه، مطلقاً العنان لموسيقاه في فضاء عنتاب، ليتلقف بعض الليرات التركية من المارة

عمر يوسف

(غازي عنتاب-تركيا) أنغام نايه الحزينة تشدّك وأنت في طريقك إلى المنزل متعبا في آخر النهار وفي طريقك إلى العمل في أول النهار ملؤك الحنين، ولا يمكنك إلا أن تنصت أكثر كلما ابتعد عنك حين تكون في المنزل وهو المار في الطريق.

الصورة من صفحة عازف ناي الحرية على موقع فايس بوك
الصورة من صفحة عازف ناي الحرية على موقع فايس بوك

أحمد الجاسر الرجل الأربعيني القادم من حي النيرب في حلب، حيث لم يعد يسمع ألحانه بفعل أصوات القذائف والإنفجارات والطلقات النارية التي تعزفها المدافع والطائرات والبنادق. حمل حقيبة رثة فيها عدد من آلات الناي الجميلة المصنعة محليا وغادر إلى غازي عنتاب التركية .

يتجول أحمد في الشوارع باحثاً عن قوت يومه، مطلقاً العنان لموسيقاه في فضاء المدينة الغريبة، ليتلقف بعض الليرات التركية من المارة، أو من أطفال يلقون السلام عليه من شرفة منزلهم مع قطعة نقدية في الهواء، لتنتهي في جيبه.

تعلم أحمد الجاسر العزف على الناي في معهد الشبيبة الموسيقي في مدينة حلب. “تمكنت من قراءة النوتة الموسيقية والعزف عليها بشكل جيد، وأصبحت خلال مدة عازفا مرافقا لعدد من المنشدين والمطربين المحليين في المدينة ” بحسب ما قال لـ “داماسكوس بيورو”.

ويعتقد أحمد أن عزفه في الفرق الموسيقية لم يكن ليكفي متطلبات العيش الكثيرة، مع ارتفاع الأسعار، فهو لم يكن يحصل على مبالغ مالية جيدة من ذلك: “لم أكن أحصل على المال الكافي من العمل مع المنشدين والمطربين لقد كانوا يعطوني القليل جداً وهم يأخذون آلاف الليرات .”

قبل سنوات ذهب أحمد إلى لبنان، بعد أن قرر أن يصنع آلة الناي ويبيعها لمراكز بيع الآلات الموسيقية. عن هذا الأمر يقول أحمد: “في الطريق البحرية بين طرابلس وبيروت تنتشر أعواد القصب، التي تصلح لصناعة الناي، كنت أجمعها وأعود بها إلى حلب، لكنني لا أخبر أحدا بسرّي، فإذا سألني شرطة الحدود أخبرهم أني استخدمها للعرائش في المنزل .”

تختلف أنواع الناي بحسب الصوت، والخشب المصنوعة منها، كما يقول أحمد كما أن للأطفال حصة فيصنع بعضاً منها بأحجام صغيرة.

أما الأسعار فتترواح مابين 10 ليرات و 25 ليرة تركية، أي ما يعادل 10 دولارات أميركية، ولكن مبيعات أحمد ضئيلة جداً.

لا يملك أحمد الجاسر خططاً مستقبلية في هذه المدينة، ولكنه يبدو سعيدا بحصوله على وعد من أحد المنشدين الحلبيين الذين استقروا في غازي عنتاب بأن يضمه إلى فرقته الصغيرة.

بعدما أفرغ ما في جعبته من كلام، حيث التقيناه ي الطريق كان لا بد للناي أن تكون حاضرة، فأطلق الجاسر لحناً تراثياً جميلاً هو لأغنية من أغاني المطرب العراقي الشهير ناظم الغزالي، فإذا باللحن يعيدنا إلى حلب وليالي المدينة وحفلاتها.

حاولنا عبثاً العزف على الناي التي يستخدمها أحمد، لكن محاولاتنا باءت بالفشل فثمة طريقة خاصة لوضع الناي في طرف الفم واستخدام الأصابع على الفتحات الستة .

 يقول أحمد: “يعتقد الناس أن العزف على الناي أمر سهل ولا يعدو سوى نفخ الهواء بقوة، الأمر يحتاج إلى تدريب ومهارة قبل حب الموسيقى”. يشرح أحمد كي أن الفتحات الستة المختلفة الحجم على تلك القصبة تمثل السلم الموسيقي في النوتة، لكن قلة من الناس تدرك ذلك.

لم يجرب أحمد الأسلوب التقليدي للعازفين المغمورين في اتخاذ إحدى الساحات العامة مركزاً لإطلاق ألحانه، نودعه على أمل لقاء موسيقي يوماً ما قد يكون في إحدى الساحات أو على خشبة مسرح كما يحلم.

ويرحل أحمد الجاسر في الشارع الضيق، وموسيقاه تنطلق في المكان. تشير إليه سيدة تركية من الشرفة بكلام لا يدركه، ليس مهماً ذلك طالما تلوح بالليرة في يدها، فيلتقطها من الهواء مبتسماً فرحاً، لكن موسيقاه تأبى إلا الحزن أبداً في الفضاء.