من نافذة مسعفة
سلام دوماني
كنت لا أزال ممدةً على سريري، غير مكترثة لسماع بِضع رَشَقاتٍ منَ الرصاص. لكن حدس الأم جعل والدتي تتنبأ بالقادم، وظهرت معالم القلق على محياها. بالفعل، سرعان ما أخذ تبادل إطلاق النار يزداد شراسة، وعناصر الجيش الحر أخذوا بالإنتشار في حارتنا في دوما، ريف دمشق.
أهل الحارة أصابهم الإرتباك. هذا يرمي ببضاعته داخل متجره بشكل عشوائي وذاك يركض في الطريق من غير وجهة محددة، وآخر يختبئ داخل أول بناء يصادفه.
وقفت أراقبهم من نافذة غرفتي، وقد أدركت وقتها أن هناك عملية لاقتحام المدينة وأن عناصر الجيش الحر يحاولون صدها، مقسّمين أنفسهم إلى مجموعات. منهم من تمركز على مداخل الحارات المطلة على الطريق العام وآخرون انتشروا عند منتصف الشارع ونهايته، حاملين أسلحة خفيفة. كما كان متوقعاً، لم يستطيعوا الصمود فترة طويلة وبدؤوا بالتراجع.
قلبي يكاد يخرج من مكانه. أصوات الدبابات تقترب ودوي قذائفها يصم الآذان. لم يعد بمقدوري الإستمرار في المراقبة من تلك الغرفة، فاحتميت في غرفة داخلية.
توسلت إلي والدتي للمكوث عند جيراننا في القبو، لكني لم أستطع ترك والدي الذي رفض الخروج من المنزل. تأملت والديّ وأنا أفكر أنها قد تكونُ المرةَ الأخيرة التي أراهما بها.
فجأة، باب المنزل يقرع بشدة. أدخل مقاتلو الجيش الحر أحد المصابين البناء الذي نقطن فيه وهو في حالة خطرة، وجاؤوا في طلبي لإسعافه.
كلا لست طبيبة، أنا مجرد طالبة في المرحلة الثانوية، قمت بعدد من دورات الإسعاف الأولي خلال الأشهر الماضية، علني أكون أكثر فائدة في ظروف الحرب التي نعيشها.
هرعت إلى المصاب. كان مضرجاً بدمائه. إخترقت صدره رصاصة لتخرج من ظهره. يجب أن يتوقف النزيف ولا نملك إلا القليل من الشاش والقطن وبعض المطهر جمعناه من أهل البناء.
حاولت أن أتمالك أعصابي، فحياة إنسان بين يدي. أخيراً، وبعد عدة محاولات، توقف النزيف فتنفس من حولي الصعداء، لكن مشكلة أخرى واجهتنا. الآن وقد اقتحمت قوات الجيش النظامي حارتنا، وهناك احتمال لبدء المداهمات في أية لحظة، أين سنخفي المصاب؟ إذا وجدوه لدينا، سنقتل جميعاً لمجرد مساعدتنا إياه.
قضينا دقائق بدت كالدهر ونحن بانتظار مصيرنا المحتوم، حتى جاءنا الخبر من صديقنا الإعلامي الصغير، الذي يأتينا بأخبار الحارة والبناء. لقد داهموا البناء، الطابق الأول ومن ثم الثاني. لم يكن بيننا وبينهم سوى طابق واحد؛ بصعودهم سننتهي. النساء من حولي يتضرّعن إلى الله ليبعدهم عنا.
وكأنها معجزة؛ إستجابت السماء لدعائنا، فأدار الجنود ظهورهم وغادرونا.
يفترض أنها نهاية سعيدة، لكنني، أنا المسعفة الصغيرة، بقيت لأكثر من يومين لا أتمكن من النوم. هي المرة الأولى التي أطبّق فيها عملياً ما تعلمته في دورات الإسعاف؛ المرة الأولى التي أنقذ فيها حياة إنسان، وكان من عناصر الجيش الحر.
أنقذت حياته، وكنت وقتها لا أفكر إن كان مع الثورة أو النظام، أو ما هو دينه أو فكره. كل ما كنت أفكر به أنه إنسان جريح وعلي إنقاذ حياته.
فقط لو يعلم القتلة كم هي ثمينة حياة الإنسان، ويكفون عن إهدارها.