من خيمة إلى خيمة إلى خارج حدود الوطن
نتيجة الحرب وشدة القصف، اضطررنا للنزوح إلى المخيمات الحدودية مع تركيا، وتحديداً مخيم قاح. وذلك في 10 تشرين الثاني/نوفمبر 2012، حيث قررنا أنا وزوجي ومعنا ابنتينا مغادرة مدينتنا، التي كان النظام يقصفها باستمرار رداً على تحريرها.
قمنا بحزم أمتعتنا فجر ذلك اليوم، بناءً لطلب سائق السيارة التي ستقلنا إلى المخيم. لننطلق باكراً تحسباً من خطورة الطريق، الذي تستهدفه باستمرار الحواجز المطلة عليه، والطائرات المحلّقة فوقه. عند الرابعة فجراً بدأت رحلتنا. كان الخوف ظاهراً على وجوه الجميع حتى زوجي، وكنتُ طيلة الطريق أتلو آيات من القرآن الكريم، وأنا أدعو الله أن نصل دونَ حدوث أي مصيبة.
وصلنا المخيم في الساعة السابعة صباحاً. كانت المرة الأولى التي أرى فيها مخيماً للنازحين! كان المخيم يقع في منطقة جبلية على شكل مدرَّجات، والخيم نُصبت فيه على شكل صفوف منظّمة، ويمتلئ بالعائلات النازحة. حينها واسيت نفسي بأنني لست الوحيدة التي تركت مدينتها هرباً من القصف.
أتى بعض الشبّان، فأوصلونا إلى الخيمة وأعطونا مستلزمات النوم. وعند التاسعة صباحاً قدّموا لنا وجبة الفطور، على أن بوزعوا وجبة الغداء عند الرابعة عصراً. أما بالنسبة للماء، فكان علينا نقله بأوعية إلى الخيمة، من صهاريج تقف على أطراف المخيم! كان الماء لا يكفي لتلبية احتياجاتنا لا سيما أنّ طفلتيّ صغيرتين.
مرّت خمسة أيام على ذات الوتيرة، وبدأتُ أشعر بالراحة والطمأنينة في حينها، لعدم سماع صوت الطائرات. لكن في اليوم التالي وبعد صلاة العصر مباشرةً، بدأ يعلو صوت طائرة حربية في سماء المنطقة، لترمي صواريخها بالقرب من معبر باب الهوى. ركضتُ مسرعةً وقمتُ باحتضان ابنتيّ اللتين تبكيان بصوت عالٍ يساعدني زوجي… كان الصراخ يملأ كل المخيم ودبَّ الذعر بين الناس خوفاً من عبور الطائرة فوق المخيم. فبدأوا بالهرب إلى البساتين القريبة، تحسباً من قصف المخيم.
أعصابي انهارت تماماً وخرجتُ وراءهم وأنا أحمل ابنتيّ بين ذراعي، قبل أن يسعفني زوجي ويحمل إحداهما، ولا أسمع سوى ما يردده الناس من حولي وهم يشيرون بأصابعهم إلى الطائرة: “عادت، نكّست وضربت”.
كانت هذه الكلمات كفيلةٌ لجعل الخوف يلازمني، وبكاء الأطفال يعلو ويغطي على صوت الطائرة…
هي مجرد دقائق قليلة لتجعل تلك الطمأنينة والراحة النفسية التي شعرت بها حين وصلت إلى المخيم، تزول وتتلاشى، ليعود ويسكن الخوف قلبي. وبعد انتهاء الغارة، عدنا للخيمة. لكن بقيتْ آذاننا صاغية خوفاً من عودة الطائرة مرة أخرى، حتى مضى الليل…
في اليوم التالي، عادت الطائرة باكراً تحلق في سماء المنطقة وتضرب القرى المحيطة بنا. فلم يكن بمقدورنا سوى مغادرة المخيم إلى البساتين القريبة، وكنا نعود إليه في المساء… استمر ذلك لأربعة أيام، أحسست حينها أن هذا الوضع سيطول!
طلبت من زوجي مغادرة المخيم إلى مخيم أطمة الواقع على الحدود مع تركيا. عله يكون أكثر أماناً، حسب ما يردّد الناس في المخيم. بقي زوجي صامتاً لبضعة دقائق، ثمَّ قال: “حسناً سنغادر في الصباح الباكر”. وافقَ على طلبي، نظراً لوضع طفلتينا وإصابتهما بالمرض بسبب الخوف.
غادرنا مخيم قاح إلى مخيم أطمة. وعند وصولنا رأينا أنه يختلف كثيراً عن مخيم قاح. فهو غير منظَّم، تتوزَّع خيمه بشكل عشوائي، ولا تتوفر فيه الكثير من الخدمات الصحية. أعطونا خيمة على أحد أطرف المخيم، التي يصعب وصول الماء والطعام إليها بسبب الوحل والجو البارد وتساقط الأمطار بغزارة.
كانت حياة قاسية جداً، ولا نستطيع تأمين أكثر احتياجاتنا، وفرص العمل قليلة، والمال الذي بقي معنا بالكاد يكفينا لبضعة أيام.
نزوحي من مكان إلى آخر للإبتعاد عن صوت الطائرات والقصف، لم يجد نفعاً!
كان الخوف يلازمني دائماً عند سماع صوت الطائرة يملأ السماء. أدركت حينها أن النزوح داخل الأراضي السورية، لن يُبعد الخوف من قلبي… فلم أجد سوى خيار الرحيل من سوريا إلى المخيمات التركية، والذي كان معظم الناس ينزحون إليها. لكن ما جعلني أتراجع عن ذلك، عدم توفر المال. كنا نحتاج مبلغاً كبيراً، ولا نملك منه شيئاً.
بعد مضي ثلاثة أيام، جاء إلى خيمتنا رجل في وقت الظهيرة، وتحديداً بتاريخ 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2012. سألَ الرجل زوجي إن كنا نرغب بدخول تركيا، وعلمت حينها أنه من تنسيقية مدينتي، وكان ممن
يعملون على نقل مَن يرغب إلى مخيمات تركيا. ملأت الفرحة قلبي وأحسست حينها أنّ باب الفرج فُتح لنا.
وافق زوجي بطلب مني، فسجّلوا أسماءنا. و لم أتخيل تلك السرعة في السفر في ذات اليوم!
فبعد آذان العشاء مباشرةً، جاءت سيارة وبعض الرجال، قال أحدهم: “هيا حان الموعد للرحيل”. كنت سعيدة وفي ذات الوقت متآلمة، لأني سأترك وطني وأهلي ومَن أحب. إلاّ أنَّ الحالة النفسية التي وصلت إليها أنا وطفلتَي، جعلتني أتحمّل فكرة الإقبال على الغربة وقساوتها.
وغادرنا على أمل أن تُفرَج ونعود بأقرب وقت إلى سوريا.
كنت أعتقد أن رحلتي لن تتجاوز عدة أشهر… لتمضي بي الأيام والشهور، وأبقى كل تلك السنين في تركيا دون أي تطور في أحداث سوريا.
تغريد العبدلله (30 عاماً) من مدينة كفرنبل، متزوجة ولديها طفلتين. نزحت عدة مرات ضمن سوريا وثلاث مرات إلى تركيا.