من الذاكرة: الجمعة العظيمة
مضى على وجودي في بيروت ما يقارب الستة أشهر. مع نهاية كل أسبوع، يعود إلى ذاكرتي ذلك اليوم؛ يوم الجمعة في 22 نيسان/أبريل 2011 الذي خرجت فيه لأشارك بمظاهرة في حرستا. عدت بعدها مثقلاً بالخوف وقررت الإنتقال من هذه البلدة الواقعة في ريف دمشق إلى وسط العاصمة. كانت تلك المرة الأولى التي أنزح بها. تتالت بعد ذلك الأحداث وتصاعدت وتيرة العنف في سوريا، وعندها قررت الإنتقال للعيش في بيروت. لم تكن تلك المرة الأولى التي أترك بها سوريا، ولكنها كانت أول مرة لا أعلم فيها متى أعود إلى بلدي ثانية.
عندما علمت أن مظاهرات ذلك اليوم ستجري تحت إسم “الجمعة العظيمة” قررت أن أنخرط بهذه الثورة السلمية بشكل جدي. رغم أني كنت أؤيد الثورة ومقتنعاً بها منذ البداية، إلا أنّ تسمية يوم الجمعة ذاك باسم مناسبة دينية مسيحيّة جاءت لتؤكد أن الثورة لجميع السوريين على اختلاف انتماءاتهم.
خرجتُ إلى الشارع الرئيسي في حرستا وفي ذلك اليوم كنت قد قررت أن ألتحق بأول مظاهرة أجدها في طريقي. كان من الطبيعي أن أتوجه إلى الجامع الأقرب من بيتي وأنتظر بجواره لأنّ المظاهرات في العادة تخرج من هناك. إنتهت الصلاة وخرج الجميع ولم تبدأ أي مظاهرة. أصابني إحباط شديد فقررت أن أعود إلى بيتي، مثقلاً بخيبة الأمل.
غير أنّ صوتاً بعيداً قادماً من الجهة المقابلة للجامع أثار انتباهي؛ صوت يشبه صوت الجمهور في ملاعب كرة القدم. كان هناك القليل من الناس في الطريق، وكلما هممت بسؤالهم عن مصدر الصوت انفضوا عني والرعب مرتسم على وجوههم. تبعت الصوت إلى أن وجدت مجموعة من الناس يقفون وينظرون بذهول باتجاه الساحة. ذهبت إليهم ودقات قلبي تتسارع مع كل خطوة.
وصلت إليهم ونظرت إلى الساحة؛ رأيت قرابة خمسة آلاف شخص يتفجرون بالهتاف، “حرية”. كانت تلك أول مظاهرة ضخمة أشاهدها خارج التلفاز. في الجهة المقابلة للساحة كان مدخل البلدة قد أغلق بحائط من الجنود المسلحين، يصطفون بانتظام. سألت أشخاصاً كانوا واقفين بجانبي عما يحدث، دون أن أنظر إليهم، فلم يجيبوا. نظرت إليهم فتبيّن أنهم عناصر أمن بلباس مدني، يراقبون المشهد بذهول.
تقدمت نحو المظاهرة دون تفكير؛ كان المتظاهرون أشبه ببحر بشري لا تحده شطآن. ضاع صوتي بين أصواتهم وأحسست بنفسي كخلية في جسد كبير. تعالت هتافاتنا وسط دهشة عناصر الأمن والجيش الذين طوقوا الساحة. بعد قليل، توجه إلينا عدد من الرجال كبار السن وبدؤوا محاولات لإقناع المتظاهرين بأن ينهوا التجمع — كان أولئك الرجال من وجهاء حرستا. ولكن شاباً في أوائل العشرينات من عمره، بدا وكأنه قائد المظاهرة، إعتذر بتهذيب وقال لهم :”الزمن ما بيرجع لورا نحنا أولاد اليوم والمستقبل.”
ثم انضم إلى الوجهاء ضابط أمن ومعه عنصران غير مسلحين يرتديان لباساً مدنياً. وقف الضابط في مكان عال نسبياً وقال: “يا شباب، نحن أخوة. هدول العصابات المسلحة هي عم تطلق النار علينا وعليكن مشان يعملوا فتنة.”
ركض الشاب باتجاه الضابط وحاول أن يهاجمه بعد أن اعتلاه الغضب، فأمسكه رفاقه من ساعديه بقوة. حين أيقن أنهم لن يفلتوه بصق بوجه الضابط، قائلاً: “قبل ما تقول نحنا أخوة رجعولي أخي يلي عندكن بالفرع بعد ما أخدتوه الأسبوع الماضي وهو على الأرض مصاوب.”
وفجأة بدأ رجل يضرب الأرض بعصاه بقوة ويصرخ بكل ما لديه من صوت :”الله، سوريا، بشار وبس.”
عندما دققت بوجهه وجدت أنه مجنون الحي الذي يلاحق الأطفال كل يوم بعد أن يستفزوه. دفعه أحد المتظاهرين، قائلاً: “روح على بيتك أنت شو جابك لهون؟”
إنسحب الضابط بهدوء بعد أن شعر أنه من المحال أن يقنع المتظاهرين بأنّه يسعى إلى الخير. عندها ازداد حماس المتظاهرين وهتافهم. تمركز عناصر الأمن في أماكنهم ثم تقدم الناس وهم يحملون أغصان الزيتون إلى الجنود الذين أغلقوا بوابة البلدة.
وفي خضم كل ذلك اتصلت بي زوجتي تسأل عن مكاني. عرفَت أين كنت دون أن أحتاج إلى الشرح. وفي تلك اللحظة، بدأ إطلاق الرصاص والقنابل الصوتية بكثافة؛ عمت الفوضى المكان وسقط قرابة سبعة شهداء على الفور أمام عينيّ. ركضت محاولاً النجاة، ناسياً هاتفي النقال على أذني، إلى أن وصلت إلى البيت، وصوت الرصاص والقنابل الصوتية يصم أذنيّ. صعدت السلالم فوجدت زوجتي جاثية على الأرض عند مدخل البيت تتفجر بالبكاء منهارة، ظناً منها أني قد قتلت. ساعدتها على النهوض ودخلنا المنزل بعد أن حاولتُ والجيران تهدئة روعها. وبعد أن هدئت قليلاً سألتني عن الذي حدث، فأجبتها: “لازم نترك المكان، لأنو الايام الجاية رح تكون أصعب بكتير.”