مشعل التمو… نقطة تحول للانتفاضة السورية، ورمزاً للحرية الحمراء.
إن التحضير النفسي لتلقي أي نبأ مفجع وكارثي صار من عادة السوريين. بحيث أضحى السوري ليس صباح كل جمعة فقط، بل في كل يوم، إما يتجهّز لسماع خبر كئيب، أو يصير هو خبراً “عاجلاً” وكئيباً لأصدقائه ومحبّيه. ولم تكن جمعة “المجلس الوطني يمثلنا” يوماً كباقي أيام الثورة حيث أثار – اغتيال أحد أعضاء المجلس وهو الشهيد المناضل “مشعل التمو” – الثورة وقلب موازينها من جديد لصالح الثوار.
لأن الكلمات تتحرّج أمام بياض ما فعل. وكل الكلمات الآن جريحة وهي تنظر إلى وداعه وإلى عظيم فعله حينما قرر أن يكون شهيداً. حقيقةً عجزت عن كتابة كلمة بحق الشهيد واحترت في اختيار الكلمات التي تليق بهذه الشخصية الوطنية الكردية السورية البارزة من الطراز الأول. نعم فالشهيد المناضل الثائر الإنسان مشعل تمو يستحق منا كل إجلال. فقد أعطانا دروساً بليغة في الكرم.
الثورة داخل مشعل
“نحن واياكم يداً بيد لنتحرر من السجن الكبير”. “إنني مطمئن الآن لأنني واثق من أنني أينما أتوجه يرافقني باقي العالم. وهذا ما ينقذني من أي شعور بالأسف”. “أبصقوا أيها الأحرار في وجه جلاديكم. فأبواب الحرية فتحت لشبابها”. لم تكن تلك الحروف سوى كلمات تحلم بنصرٍ أتٍ يرددها شهيد سورية مشعل التمو في محافل الثورة وشوارع مدينة قامشلو وهو يوجه هتافاته ويوصل صوته لمضاجع نظامٍ مستبد سفك من دماء أبناء شعبه ما سفك.
نعم إنه شهيد الثورة وصوت الحق وكلمة الحرية. وهو يهجر الخوف ومضايقات النظام لينضم إلى ثورة الشباب السوري بكل ثقله بعد أن خرج بطلاً من زنزانات النظام الجائر. إثر اختطافه بتاريخ 15/8/2008 من قبل قوى الأمن الجوي السورية أثناء سفره لحلب لينتقل عبر فروع الأمن السياسي ثم إلى المحاكمة. ليصدر حكماً عليه في 11/5/2009 بالسجن بتهمة وهن نفسية الأمة. وجناية إضعاف الشعور القومي. وأفرج عنه مؤخراً بالعفو المُصدر تحت ضغط الثورة.
نبذة عن تاريخ مناضل هدفه حرية شعبه
ولدَ وعلى جبينه جذوة النّضال تتّقدُ. فأسموه “مشعل”. نما وترعرعَ فلازمه ضياء الجذوة وشعاعها. فقلّدوه وسام “المناضل”. ولمّا حاولوا إطفاء الضّياءِ وإخماد حرارة الجذوة استحقّ شرف الشّهادة فصار “الشّهيدَ”.
هو المهندس الزراعي مشعل نهايت التمو. من مواليد الدرباسية 1958 يقيم في مدينة القامشلي. هو من القيادات الكردية الناشطة في الشأن السوري العام والكردي بشكل خاص. يحظى باحترام مختلف السياسيين. كما أنه الناطق الرسمي باسم تيار المستقبل الكردي في سوريا الذي شكله هو بنفسه في 29أيار2005 والذي ينطوي تحت لواء لجنة التنسيق الكردية المؤلفة من ثلاثة أحزاب (يكيتي – أزادي – تيار المستقبل) وهي خارج إطار إعلان دمشق. كما يعد من أبزر القيادات السياسية الكردية الشابة. كان في السابق أحد قيادي حزب الاتحاد الشعبي الكردي في سوريا ولمدة عقدين من الزمن. ترك مشعل التمو حزب الاتحاد الشعبي في نهاية عام 1999 وأسس مع بعض النشطاء السوريين لجان إحياء المجتمع المدني في سوريا. وهو متزوج وأب لستة أولاد.
بعد الإفراج عنه في شهر حزيران “يونيو” عام 2011 في محاولة لتهدئة حركة الاحتجاجات التي اندلعت في أنحاء البلاد. كان سباقاً للمشاركة في الثورة السورية ووقف لجانب الشباب في ساحات الحرية. كما شارك في فعاليات مؤتمر الإنقاذ الوطني السوري الذي عقد في مدينة إسطنبول التركية. وألقى خلاله خطاباً من داخل سوريا أكد فيه على “وحدة الشعب السوري”. ولم يأبه لعروض تلقاها من طرف النظام السوري بالمشاركة في مؤتمرات الحوار. رفض ذلك، وكيف يقبل والقتل يطال أبناء شعبه كل يوم وهو الذي أعلن تأييده للمحتجين ضد النظام منذ اليوم الأول. لينخرط بعدها كعضو في الأمانة العامة للمجلس الوطني السوري ممثل المعارضة السورية أمام المتجمع الدولي.
هزهم صوته المنادي بالحرية فاغتالوه…
لم يكن اغتياله المحاولة الأولى لقتل روحه النضالية الفذّة. حيث تعرَّض مشعل تمو لمُحاولة اغتيال بتاريخ 8 أيلول2011 لكنها باءت بالفشل. كما كان يتلقى التهديدات بالقتل من قبل شبيحة النظام بين الفينة والأخرى. لذلك كان يُحاول أن يتوارى عن الأنظار ويَتنقل بسرية من مكان لأخر. حتى طالته يد الجنات الغادرة في 7 أكتوبر عام 2011، إذ استطاع 4 مسلحين مجهولين من الوُصول إلى مكان إقامة مشعل. فقاموا باقتحام المنزل واطلقوا الرصاص عليه ولاذوا بالفرار خلال أقل من دقيقة. حيث كان برفقة الناشطة “زاهدة رشكيلو” وأبنه مارسيل اللذان أصيبا بجروح طفيفة. لتشكل تلك الجريمة والاغتيال سخطاً شديداً في أوساط المعارضة السورية. وخصوصاً في مناطق الأكراد. فخرجَ عشرات الآلاف منهم ليلة الإغتيال في كافة المناطق الكردية للتظاهر احتجاجاً على مقتله. وفي اليوم التالي للاغتيال خرجَ عدد من المتظاهرين قدر بمئات الألاف في مدن القامشلي وعامودا والدرباسية وديريك وسري كانيه لتشييع جثمانه. وسُرعان ما تحول التشييع إلى مظاهرات تطالب بإسقاط نظام بشار الأسد. كما شهدت مدينة القامشلي ومدن أخرى حولها إضراباً عاماً احتجاجاً على الاغتيال. لكن قوات الأمن وشبيحتها الحاقدة توجهت نحو المظاهرات المدنية وأطلقت عليها النار فأردت 6 متظاهرين قتلى. بعد أن سمت تنسيقيات الثورة السورية ذاك اليوم ب”سبت مشعل التمو”.
لم يكن رحيل هذا المناضل سوى استكمال لقافلة الشهداء الذين سطروا بدمائهم ملامح الثورة السورية. فمن لا يعرف الشهيد عن قرب لا يدرك معاني الثورة والإباء والشموخ وأنه رمز الحرية والكرامة والانتفاضة. لم يبخل التمو منذ اليوم الأول بعد خروجه من غياهب سجون السلطة بالنزول إلى ميادين الثورة وكان السباق للسير في الصفوف الأمامية في مظاهرات قامشلو. كان يزود الأبطال بجرعات النصر والحلم القادم لسورية الفخر. وكان من دعاة الوحدة الوطنية للشعب السوري. حيث لم يأبه بالمناصب والجلوس في المنزل والمتظاهرين يجوبون ساحات الحرية. كان بحق مناضل ثوري وقيادي بامتياز. كما لم تكن شهادته وليدة صدفةٍ ما. فلقد أختارها عندما قرر أن يلون صفحة من صفحات تاريخه النضالي الكردي ويمزجه مع دماء شهداء الثورة السورية. بدمٍ يسطر تاريخ شعبٍ كتب لنفسه شعار الحرية. وهو يقول أمنيتي أن أموت شهيداً فداءً لبلدي وشعبي. حيث لم تبكي قامشلوا وحدها على دمائه الطاهرة بل أبكى كل سوري في العالم. لن تكون يا أبى فارس سوى أسطورة الثورة السورية ومهندس انتفاضتها لأسقاط هذا النظام الجائر.
شهادات سطرها شرفاء بحق المناضل…
سطر العديد من منضالينا وكتابنا الكبار بحبر أقلامهم كلمات حقٍ مستحقة لشهيد الثورة. من رثاءٍ عليه إلى الكتابة عن بطولاته لتبقى تلك الشهادات مخلدة بوداع شخصية ألهمته الحرية حتى منحته الشهادة.
الحرة “سهير الأتاسي” في تعليقها على اغتيال القائد الكردي مشعل تمو كتبت “ها هم يعلنون بدء مسلسل الاغتيالات. ربما حرب الإبادة التي يشنوها لم تعد تكفيهم. وها نحن نعلن من جديد أننا سنسقطهم بأيدينا. وأن نور الحرية قادم من مشاعل أبنائها. شاء من شاء وأبى من أبى”.
الكاتب “ابراهيم اليوسف” والصديق المقرب للتمو كتب في إحدى مقالاته عن كيفية سماعه الخبر: منذ لحظة سماعي النبأ الصاعق. باغتيال المناضل مشعل التمو. تداعت إلى مخيلتي صور كثيرة عن أمكنة وأشخاص ورؤى. لا تغيب صورة صديقي أبي فارس الذي لم أره –بسبب سفري- منذ تلك اللحظة الأليمة وهو وراء القضبان- عن بؤرة المخيلة-. أذكر كيف غصت قاعة المحكمة في دمشق بأحبته عرباً وكرداً وسريان وأرمن وشاشان وشركس. مسلمين ومسيحيين ويزيديين. ليسمعوا إفادته التي انتهت بتصفيق من قبل الموجودين. لأنه أحد قلة من المناضلين في العالم، ممن قالوا كلمتهم وراء القضبان كما دأبوا على قولها وهم في حياتهم النضالية خارج السجن. مما يجعل من إفاداته أن تكون صالحة لجيل شبابنا الذين انتبه إليهم مشعل التمو. وكان يتحدث عنهم أينما حل وكأنه يتحدث عن اكتشاف جديد لمستقبل مزهر.
المعتز بالله الخزنوي أبن الشهيد الشيخ محمد معشوق الخزنوي الذي أغتاله النظام كتب عن رفيق درب والده وهو يرثي الشهيد مشعل التمو: يكفيك أن استشهادك كان يوم الجمعة المبارك عند الله وعند الشعب. واستشهادك من أجل رفع الظلم وتحقيق العدل. ويكفيك رغم أنك كنت لوحدك أخفت نظام يملك أقوى الأجهزة في المنطقة.
الكاتب موسى موسى يصف في إحدى مقالاته مشعل تمو بأنه مشروع قيادي حقيقي للثورة السورية في زمن غاب فيه مفهوم القادة الحقيقين. وكان مشروعاً للثورة التي فجرها أبناء درعا الأبية فأصبح سقياً لها لتمتد وتتعمق أكثر فأكثر. لذلك كان إقدام النظام وسفلته على اغتياله مشروعاً ممنهجاً ومخططاً كان لا بد من تنفيذه سواءً ما قبل جمعة المجلس الوطني يمثلنا، أم ما بعدها. إن جريمة اغتيال التمو بهذه البشاعة أقلقت النظام وسفلته. وهزت الضمير العالمي الإنساني والدولي لتصبح جريمة اغتياله إصراراً شعبياً واسعاً على اسقاط النظام. ومنها بدأت تماثيل حافظ الأسد تتهاوى في المناطق الكردية بفضل دم المناضل الكردي السوري البارز.
الكاتب عمر كوجري وصف استشهاد صديقه التمو في كلمات أشبه بالرثاء: يا إلهي… أية أياد جبانة فكّرت في إزهاق روح الصديق الشهيد مشعل. أيُّ أصابع حقيرة وواطئة استقوت لتضغط على الزناد و”تسكت” هذا الصوت الهادر. وهذه الشجاعة الفائقة التي كنا وما زلنا نفتقدها في قول كلمة الحق في حضرة سلطان جائر، علّا كعبه وتوسّعتْ دوائرُ غيّه دون وجل. التقيت بالشهيد مشعل مرات عديدة حينما كان يأتي لدمشق كنت أحسدهُ على جرأته وثقافته الثرية وروحه الطيبة المرحة ودماثة خلقه وتواضعه الجم. مرات كثيرة كنت أصادفه متوجهاً في منتصف الليل وحيداً في السرفيس فنتعانق ويعدني بلقاء معه حالما ينتهي من مواعيده الكثيرة.
الشاعرة نارين عمر طرحت في مقالتها عن التمو أن نجعل من دمِ مشعل عطراً يطهّرُ نفوسنا المتعطّشة للحرية. كما نجعل من دمه ومن دمِ كلّ شهداء الوطن المدادَ المقدّسَ الذي نخطّ به. عهدَ الأخوّةِ والصّداقةِ والصّدق بين مختلفِ أطيافِ ومذاهبِ وملل الشّعبِ السّوريّ. ليكن استشهاده واستشهاد كلّ فردٍ منّا رسالة إلى كلّ مَنْ يجرّدُ نفسه من إنسانيّتها وقلبه من وداده وفكره من تعقّله قبل إقدامه على فعله المنافي لكلّ القيم والخلق. فيعود إلى إنسانيّته. وينعمَ بودّ قلبه. ويسترشدَ بهدي فكره. فنحنُ هنا لا نعزّي النّفسَ برحيل مشعل فحسب بل نعزّيها بفقدان كلّ مَن رحلَ منّا من الأحبّةِ. ونحزن على مَنْ يُغْرِقُ نفسه في بحر الظّلماتِ بدل العومَ في كوثرِ الإنسانيّة النّقيّ.
إن القتلة باغتياله أرادوا أن يطفئوا مشعل سوريا. ولكن ما علموا أنّ كلّ سوري يولد وفي يده مشعل دائم الضّياء. وعلى جبينه بصمة إباءٍ لا تُمحى. ومن عينيه تذرفُ ومضة العشق السّرمديّ. لتكون أخر كلمات كتبها الراحل بتاريخ 2102011 أكبر دليل على تضحيته من أجل الثورة وهو يقول: بعد الكثير من المخاضات والمؤتمرات واللقاءات التي افرزتها الثورة السورية، بتضحيات الشباب السوري التي فاقت تضحيات اي ثورة في العصر الحديث. أعلن اليوم في اسطنبول عن قيام المجلس الوطني السوري. كخطوة أساسية في بلورة البديل السياسي للنظام. وبغض النظر عن بعض السلبيات التي رافقت التأسيس. فإننا في تيار المستقبل الكردي نبارك هذه الخطوة ونعتبرها انعكاساً للثورة السورية. لإنجاز برنامجها في اسقاط النظام. والعمل على تأمين حماية دولية للمدنيين بما يتوافق والقانون الدولي. وبناء دولة مدنية ديمقراطية تعددية تشاركية وتداولية. دولة تكون لكل السوريين. دولة للحرية والكرامة.
المجد للشهداء وعاشت سوريا حرة.