مسكونة بالذعر من سياط جلّاد

الثورة قرار اتخذناه وكان لزاماً علينا دفع ثمنه. الموت كان الخيار الأسهل بين خياراتنا السيئة، كما لا يتوقع الكثيرون ممن يسمعون حكاياتنا. أمّا الخيار الأسوأ فكان الموت البطيء في سجون النظام. كنت قد سمعت الكثير عن إجرام عناصر العصابة الحاكمة، قبل أن أصبح شاهد عيان على حادثة اعتقالها وشاهد عيان على آثار التعذيب على جسدها وروحها.

رنيم صديقتي الأعز وشريكة مقاعد دراستي منذ المرحلة الابتدائية، هي فتاة من دير الزور تدرس في كلية الاقتصاد لم تتمكن من إنهاء عامها الدراسي الأول بفعل بدء قصة النزوح التي عاشها أكثر السوريون. وكذلك بفعل اعتقال والدها وشقيقها الوحيد بتهمة التحريض على التظاهر ضد نظام الأسد. غادرت مع عائلتها المدينة قاصدين الريف المحرر، كي لا يتعرضوا لظلم النظام مرة أخرى عبر تلفيق التهم لكسب رضا الدولة والمال على حساب حرية وحياة أناس آخرين.

سيدتان تمشيان في حي الشعار في حلب. تصوير حسام كويفاتية

وبعد نزوح دام عام ونصف العام قررت عائلة رنيم، أن يذهبوا إلى تركيا لعيش حياة أفضل من التي يعيشونها في الريف. فكانت جوازات السفر أول عقبة تواجههم. وبعد تفكير طويل قرروا الذهاب إلى مناطق النظام للحصول على جوازات سفر.

ذات يوم بارد من كانون الثاني/يناير من عام 2014، تشاركت ورنيم وعائلتها القارب الذي أقلّنا من قرية الحصان في الريف المحرر، إلى مدينة دير الزور الواقعة على الطرف الثاني من النهر. بات النهر يشكل طريقنا الوحيد بين الريف المحرر والمدينة المحتلة من قبل النظام. ضحكات رنيم كانت تستفزني، بينما كنت قلقة كما اعتدت قبل كل امتحان. ربما كانت رنيم تضحك كي تخفي حسرتها على دراستها الضائعة، أو ربما كانت تعرف ما ينتظرها بعد قليل. كانت تضحك كما لن تضحك بعد هذا.

في الطابور الطويل الواقف أمام حاجز الطلائع المرعب وقفت السيارة التي أقلتنا من أمام ضفة النهر باتجاه مدينة دير الزور. مرّت ساعة كاملة قبل أن يصل دورنا، ويتجه أحد رجال النظام إلى سيارتنا طالباً البطاقات الشخصية والنزول كي يفتش السيارة. 10 دقائق على التمام انقضت قبل أن يأتي العسكري مبتسما ويقول: “من هي رنيم؟” أجابته بصوت لا يكاد يُسمع: “أنا”. رد بالقول “أخيراً وقعت يا حضرة الثائرة، تفضلي معنا، وأنتم اذهبوا رافقتكم السلامة”. صاحت به والدة رنيم أين تأخذ ابنتي فقال لها العسكري بكل برود “ابنتك خائنة يا حجة، وابنتك ستطيل المقام عندنا”. انهارت والدة رنيم واضطررنا لنقلها إلى مشفى الأسد في دير الزور، بينما كانت رنيم تستقل سيارة الاعتقال تنقلها إلى فرع الأمن العسكري، حيث اتهمت بالتواصل مع قنوات معادية والعمل كمراسلة معها. طالت استضافة رنيم في الفرع كما أخبرها سجانها لحظة اعتقالها. عام ونيف قضتها رنيم في سجون الأسد، تنقلت خلالها بين فرع الأمن العسكري في دير الزور وفرع فلسطين وسجن عدرا في دمشق. بين الزنزانات الانفرادية الرطبة القذرة والمهاجع الجماعية. تعرّفت على نساء أخريات وقصص معاناة أخرى. امرأة من اللطامنة ذبحوا ابنها أمام عينيها، وأخرى من حلب تبكي طوال الليل زوجها المفقود. وأخرى ما تزال في ريعان شبابها لكنها تحمل في جوفها طفلاً لا تعرف أي محققي الأمن العسكري في حمص  يكون والده.

“كنت أصغرهن في عدرا، أن تكون معتقلاً عليك أن تتوقع كل أنواع الإهانات والشتائم ونظرات الاحتقار، أن تكون معتقلاً عليك أن تتوقع كل أنواع التعذيب والعقاب وأن تعيش القلق والتوتر وترى مناظر الدماء وتشتمّ رائحتها وتستعد في الاقبية السوداء لتوديع رفيق سجنك كل يوم، فما بالك بمعتقلة؟”. كلمات مليئة بالأسى ألقتها رنيم على مسمعي لدى التقائي بها في منزل نزوحهم الجديد في ريف دير الزور. إجرام جنود النظام وحقدهم لم ينسها الحديث عن بقعة الأمل الوحيدة في رحلة اعتقالها، والمتمثلة في المجنّد الذي رافق رحلتها من دير الزور إلى دمشق، شخص لطيف أشعرها بالأمن حيال نظرات 75 رجلاً بين رجال أمن ومعتقلين رافقوها رحلة الطائرة التي اقلتها إلى دمشق، بكلمات رقيقة يخبرها فيها أنها لا يجب أن تقلق وأن أحداً لن يؤذيها طالما هو إلى جانبها، وأشعرها بالدفء بينما كان برد شباط / فبراير يخترق عظامها ويتغلغل في أطرافها العارية. ألبسها سترته  ليقيها البرد ثم أعطاها جواربه، بل وقام بإلباسها الجوارب، إذ منعتها القيود من ارتدائها.

انتهت معاناة رنيم في السجن بتعيين محامية اشتهرت بأعمال السمسرة، فكانت البراءة مقابلاً جيدا لمبلغ مالي كبير دفعته عائلتها. وتخلصت رنيم من عذابها الطويل، بينما لا زالت آثار التعذيب ظاهرة على جسدها، وأطياف رفيقاتها في المعتقل مازالت تلاحق نومها ويقظتها. فقدت رنيم جامعتها وعاشت لحظات الاعتقال المريرة في سبيل حلم جميل حلمنا به ذات يوم. نحن جيل رضع الإرهاب السياسي ولم يفطم بعد على الحرية. مسكونة بالذعر أنا من سياط جلّاد تهددني كلما مررت بحواجز جنود الأسد. تجربة رنيم ما زالت حاضرة في ذهني ترعبني حينا وتستفزني حيناً آخر، إلى حرية لا بد أن نجدها ثمناً لكل تلك التضحيات.

غزوة عطالله (21 عاماً) من دير الزور طالبة أدب فرنسي تحاول الحصول على قبول جامعي في تركيا لتكمل دراستها، بعدما اضطرت للتوقف عن الدراسة بسبب نزوح عائلتها التي يسعى النظام لاعتقال عدد من أفرادها.