مذكرات الثورة: ياسمين
رزان زيتونة
يعاني أصدقاء ياسمين في المكتب الاعلامي للجان التنسيقية المحلية، في حالات ثلاث: حين تضطر للغياب عن العمل، وحين تسمع نبأ إعتقال أحد النشطاء الذين كانت على تواصل معهم، وحين اضطرارهم “لترجمة” بعض مفرداتهم العامية التي تستعصي عليها.
في الحالة الأولى:
لأنها روح المكتب وابتسامته كما يصفها أصدقاؤها. منذ ما بعد بداية الثورة بقليل اعتادت ياسمين على التواصل مع شباب وشابات الثورة وعائلات المعتقلين والشهداء، فضلاً عن مختلف وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمقروءة، العربية والغربية.
“كانت البدايات صعبة للغاية، حين كان تمرير خبر للإعلام عن مظاهرة أو نشاط احتجاجي يكاد يكون بصعوبة تنفيذ النشاط نفسه. كنا، زملائي في الفريق وأنا، نعمل كخلية نحل من أجل الحصول على المعلومات ومقاطعتها وتدقيقها ثم إرسالها إلى وسائل الإعلام التي كانت لاتزال متشككة في الكثير من الأنباء أحياناً أو غير مبالية أحيانا ًأخرى”.
رغم أن الفريق يضم نشطاء ليس لمعظمهم خبرة صحفية سابقة، إلا أنه حاز مع الوقت على المصداقية الأكبر لدى وسائل الإعلام المختلفة.
“كنا نصحح أخطاء بعض ونراقب أداء بعض، وأمامنا هدفين متلازمين، دقة المعلومة قدر المستطاع في ظل ظروف عملنا، وأن نراها من ثم على شريط الأنباء أو كخبر عاجل على الفضائيات. سعادة شباب الثورة وسعادتنا كانت لاتوصف حين يعرض فيديو قاموا بتصويره أو يأتي خبر مظاهرة نظموها”.
مصاعب البدايات لم تقتصر على التعامل مع وسائل الإعلام، بل بالدرجة الأولى ربما في التواصل مع النشطاء الميدانيين صانعو الخبر وناقلوه.
“في البدايات، كان البعض يغلق السماعة في وجهي، آخرون يتكلمون بأدق التفاصيل لدرجة تشعرني بالرعب عليهم حتى أتمنى أن أغلق الخط وأنهي المكالمة، مع الوقت أصبح الأمر أكثر من عملية نقل حيادي للأخبار. أصبحت أعيش في قلب الثورة من خلال أصواتهم. وهو مالا تستطيع صياغة خبر أو أية كلمات في العالم نقله. في إحدى المرات اتصلت بشاب من داعل وكان وسط المظاهرة، وقال لي ياسمين اسمعي الهتافات: حرية حرية، سلمية سلمية، وبدأ بالبكاء. وبدأت بالبكاء معه…”.
تقول ياسمين أنها “شهدت” عبر الهاتف. اقتحامات المدن والقرى، أجمل المظاهرات، لحظات فرح شباب الثورة وغضبهم… أول هتافاتهم وآخر نكاتهم…
في الحالة الثانية:
لأن ياسمين وفريقها ليسوا من الصحفيين “المحايدين”، بل هم على انحياز كامل للثورة وأهلها. ومع الوقت يتشكل عالم موازِ قوامه حكايا النشطاء وعائلاتهم وتفاصيلهم الصغيرة التي لا مكان لها في نشرات الأخبار، لكنها تعلمنا أن نتلصص على دقات قلب الثورة ونضبط دقات قلوبنا على إيقاعها.
“الأستاذ عمر من حماه، في العقد الثامن من عمره، كان يخبرني في كل مكالمة أنه يحلم بهذه اللحظات منذ أربعين عاماً. وعندما دخلت الدبابات إلى المدينة قال لي: ياسمين، أنا لن أحزن إذا قتلت إلا لأنني لن أكون قادراً على الاحتفال معكم في ساحة العاصي العظيمة. لا أعرف مصيره منذ الاقتحام، هل هو معتقل أو متواري أو استشهد…”.
“عندما أضطر للحديث مع طفل تعرض للاعتقال، كنت أستمر بالبكاء بصمت طيلة المكالمة، أحس بكل ما يصف من عنف مورس عليه على جسدي ركلاً أو صفعاً. وبالقهر في صوته الضعيف وارتباكه في فهم ماتعرض له”.
لكن لا يوجد أقسى من الحديث مع الأمهات. وجميعهن يكررن السؤال نفسه، إن كان سيطول غياب أولادهن، وكأنني لمجرد قدرتي على نشر الخبر أملك القدرة على تعديله وتقرير موعد الإفراج عن الابن الغائب.
أتذكر إحدى الأمهات من بانياس، اعتقل أربعة من أبنائها، قالت لي وهي تبكي: يا أمي فدا الوطن. لكن الصغير مريض ويحتاج إلى دواء، فقط أوصلوا له الدواء ولا أريد شيئاً من هذه الدنيا. قريبة الشاب طلبت مني أن أقول نعم، وبالفعل وعدت الأم كذباً بإيصال الدواء. بعد فترة اتصلت بي الأم تسألني إن كان الدواء قد نفذ لترسل غيره. يا إلهي…”.
“عند إقتحام جسر الشغور كنت أتحدث مع ناشط قتلت أخته وأربعة من أصدقائه، وكان وقتها مختبئاً في حمام منزلهم، يراقب من نافذته الصغيرة المدينة التي لم يبق فيها إلا رائحة الدم والخراب. وفجأة بدأ يحدثني عن الصبية التي يحبها، وكيف كان يسرق اللحظات كي يلتقيها أو يتصل بها، وكيف أن الشيء الوحيد الذي يتمناه قبل أن يموت هو أن يراها، ثم بدأ يضحك، ثم أخذ يبكي، وقتها سألني سؤالاً لم أعرف إجابة له غير الإجهاش بالبكاء: آنسة ياسمين، هل تعتقدين أنها لا تزال على قيد الحياة؟”.
ليس من السهل تحقيق التوازن دائماً بين الجانب الإنساني وإلحاح طلب المعلومة خاصة في أوقات الأزمات والاقتحامات والحصار… وسقوط الشهداء. مع لهفة النشطاء الدائمة لتوصيل الأخبار بالسرعة الممكنة، إلا أنه في لحظات معينة تنقلب هذه المهمة عبئاً يترجم نفسه بشيء من الغضب أو الإنفعال، كما تصف ياسمين.
“كنت أسأل أحد النشطاء عن أسماء الشهداء في جبل الزاوية منذ أيام. وفجأة قال لي من دون مقدمات، بأن الشهداء بالنسبة لي هم مجرد أرقام. وأنني لا أهتم بهم إلا كخبر صحفي. وأنهى المكالمة، قبل أن أخبره أنني أتألم بالفعل لكل شهيد، وأتخيل كل تفصيل في حياته، كيف يفتقده عزيز ما، ويتألم لكرسيه الفارغ على مائدة العشاء، كيف يفتقده طفله أو تبكيه والدته.
في مرة أخرى كنت أتحدث مع شخص من القامشلي حول مظاهرات ذلك اليوم، وفجأة بدأ يحدثني بعصبية بدون مبرر. ثم صمت قليلاً قبل أن يخبرني أنه لم يلتق عائلته منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وأن لديه ابنة ربما تكون في مثل عمري وهو مشتاق لها كثيراً”.
الثورة ليست كلها ألم ودموع، تقول ياسمين، هي في الأصل فرح خالص بفعل تحررنا اليومي، وتصف كيف أنها لا تتوقف عن الاندهاش حول كيف يخلق السوريون لحظات المرح والسخرية والنكتة من ركام المعاناة اليومية.
“أحياناً أتحجج بنقص المعلومات للإتصال بهم كي أجد لنفسي شيئاً من السكينة وسط أمواج الأخبار المتلاحقة عن الحصار والقصف والشهداء. مثلاً فادي من حمص يجعلني أضحك بلا توقف، كلما اتصلت به يسألني لماذا تأخرت بالاتصال، ويبدأ بالصراخ علي مؤنباً حتى أشعر أنني في دوام رسمي أمام رئيسي في العمل، وصوت ضحكته يعلو دائماً على صوت الرصاص الذي أسمعه من حوله عبر الهاتف.
أحياناً تكون الضحكة وليدة موقف محرج، لكنه على الأقل يذكرنا بأننا أشخاص طبيعيون ولدينا حياتنا الخاصة التي تقريباً نسيناها. اتصلت مرة بناشط من ادلب، فردت علي زوجته وبدأت باستجوابي، من أنا ولماذا أريد التحدث مع زوجها… الخ ثم قالت لي أنه يستحم وسيتصل بي عندما يجد وقتاً لذلك! قبل أن تغلق السماعة في وجهي”.
في الحالة الثالثة:
لأن ياسمين حالها كحال آلاف السوريين يعيشون في المغترب أو المنفى منذ فترة طويلة، ويرغبون بالمساهمة في الثورة بما استطاعوا إليه سبيلاً. وهي من موقعها كمنسقة المكتب الإعلامي، تتدفق بالحكايات حتى تكاد لا تنتهي، وأضطر لحذف معظمها كوني أعجز عن نقل ما تنطوي عليه من عمق وبساطة في الوقت نفسه بالكلمات المناسبة.
“مع الثورة، بدأت بالتعرف إلى شخص آخر داخلي، ربما ما كنت لأكتشفه لولا الثورة. الآن أنام وأصحو مع السوريين في الداخل. الثورة غاية في الألم. الألم لا يطاق. لكنها أيضاً أيام لن تكرر. أحب أنني جزء من هذا كله بالقدر الذي أستطيعه”.
“وأنا مدينة باستمراري للفريق الرائع الذي أعمل ضمنه من نشطاء في الداخل والخارج، كلما أحس واحدنا بالتعب يتولى الآخرون مهمة غسل التعب عن روحه…”.
لكن الثورة ستنتهي يوماً، أسأل ياسمين، فتقول: “وقتها، سأرجع إلى سوريا، وأعمل من أجل سوريا الجديدة ومع أطفال الشهداء بالذات، سأحكي لهم كل القصص التي لم يتمكن آباؤهم من روايتها لهم، هذا الجيل القادم هو ياسمين البلاد الحقيقي الذي سيلقي ببياضه ستاراً على عقود الدماء والقتل والقهر التي عاشها آباؤهم”.