مذكرات الثورة – الجيزة
رزان زيتونة
يستهويني دائما سؤال الشبان الذين شاركوا في المظاهرات مع بداياتها المبكرة، حول تلك اللحظات… حيث قاموا بما كان يعتبر حتى ذلك الوقت معجزة حقيقية، بتجاوز ركام الخوف ومواجهة وحش القمع بتلك الجرأة.
فكيف إذا كان ذلك الشاب من درعا التي فجرت الثورة، ومن مدينة الجيزة جنوب شرقي درعا التي عرفت برمزها الطفل حمزة الخطيب ابن الثلاثة عشر ربيعاً الذي اعتقل وأعيد جثة هامدة تحت التعذيب.
يذكر محمد وهو في أوائل العشرينات من عمره، المظاهرة الأولى التي خرجت في الجيزة كرد فعل على ما حصل في درعا المدينة آنذاك.
كان عدد المشاركين قليلاً، بدء بنحو 150. خرجنا بشكل عفوي جداً واستمرت المظاهرة نحو ساعتين على أمل انضمام أعداد كبيرة إليها. لكنها لم تزد في نهايتها عن نحو أربعئمة شخص. كان الهتاف بأن الشعب يريد إصلاح النظام!
ومع ذلك. كانت المرة الأولى في حياتي التي أنطق بها بهذه الصورة! أحسست بالخوف والرهبة. حتى أننا لم نكن نرفع أصواتنا كثيراً أثناء الهتاف. لكنني أيضاً أحسست أنني أسمع صوتي للمرة الأولى. بعد أن انتهت المظاهرة، لم نكن مصدقين لما فعلناه. في الحقيقة، حتى اللحظة لا أصدق ما نحن فيه… العشرة أشخاص أصبحوا مئة. والمئة أصبحوا ألف، والصوت صار تدريجياً يعلو والهتاف يرتفع.
بداية المظاهرات كانت عفوية بشكل كامل، لمجرد سماع خبر عما يحصل في درعا، يتوافد الشبان إلى الشارع للخروج في مظاهرة، لكن بعد تطور الأمور وحصول الاجتياح للبلدة أصبحت الأمور أكثر تنظيماً عن طريق مجموعة من الشباب، الذين انتظموا في تنسيقية الجيزة، التي ينشط فيها محمد.
منذ أشهر والبلدة كباقي مناطق درعا محاصرة بالجيش وقوى الأمن. مداهمات شبه يومية ليلاً ونهاراً، لنشطاء المظاهرات أو بشكل عشوائي للترهيب. ناهيك عن الطريقة التي يجري فيها الاعتقال أحياناً، من تعرض المعتقل للضرب المبرح.
أحدهم جرى ضربه بأعقاب البواريد على صدره ما أدى لكسر ضلعين في صدره، يقول محمد. هذا غير أعمال السرقة والنهب.
لكن الأكثر استفزازاً من ذلك كله، هو الختم الذي يتركه عناصر النظام في نهاية حفلة القمع تلك، من كتابات على الجدران على امتداد البلدة، مثل: أنتم الداء ونحن الدواء. إن عدتم عدنا وستكون عودتنا قاسية. لا إله إلا بشار…
بمجرد انتهاء الحملة، تكون مهمة شباب الجيزة مسح تلك العبارات والكتابة فوقها: سوريا حرة. وبشار يطلع برا. نحن بانتظاركم…
علاقة أهل الجيزة بعناصر الجيش لا تتساوى في جميع الأحوال. تنتشر في الجيزة الفرقة 15. أغلبهم محترمين وسهل التعامل معهم ومتعاطفين معنا، يقول محمد، لكن لا يستطيعون فعل شيء. من يرفض تنفيذ الأوامر يتعرض للإعدام. البعض منهم عندما يقومون بأخذ هوياتنا على الحواجز يعتذرون ويطلبون مننا السماح. هؤلاء نسامحهم. لكن آخرين… لانعتبرهم سوريين لفرط عنفهم وقذارة ألفاظهم نحونا.
رغم الحصار وحملات الدهم المستمرة لاتزال الجيزة تخرج بمظاهرات حاشدة. تهافت الموت يجعل الأحياء حائرين بموقعهم. مو فارق معي الموت يقول محمد. ويضيف أنه في لحظات كثيرة احتقر نفسه. عندما شهد رحيل أحبة وأصدقاء ومقربين منه برصاص الأمن.
يوم مجزرة صيدا التي خرجت فيها بلدات وقرى درعا لفك الحصار عن المدينة بتاريخ 29-4-2011، كان الجرحى أخوتي وجيراني ورفاقي. كانت المرة الوحيدة التي بكيت فيها بحياتي، بكيت حتى كدت أنهار.
وإذ أعتذر من صديقي لإجباره على استرجاع تلك اللحظات، يبادرني بالقول أنه أصلاً لا يذكر غيرها، على الرغم من أنه لم يتحدث عما حصل إلا مع صديق واحد مقرب بعد ذلك اليوم. هناك أشياء لا يمكن مشاركتها مع أحد، كما يقول.
- المزاج العام في الجيزة حالياً هو مزاج تفاؤل ممزوج بالخوف والقلق. لكن لا وجود للتعب والإحباط الملاحظين في مناطق أخرى على حد قول محمد. مع كل مظاهرة تشحن الهمم من جديد. الإحباط يتسلل في حالات قليلة، عندما يقل عدد المتظاهرين، أو عندما تبرز خلافات المعارضة إلى العلن! فهم في تشتتهم وعجزهم يتناسون أن في كل تعثر لهم يسقط شهيد أو يغيب معتقل.
في الجيزة أيضاً بدأت فكرة عسكرة الثورة ترتاد خيال بعض الشبان. يقول محمد بدأناها سلمية ونريدها سلمية للآخر. ولكن بعد كل مجزرة تتعالى أصوات ترى في العسكرة حلاً وحيداً لوقف المجازر. إلى متى يمكن احتمال ما يحصل من جرائم؟ يتساءل.
سألني صديقي إن كنت شهدت وقوع مجزرة في حياتي. وعرفت مغزى سؤاله. الجرحى من حولك بالعشرات، قتلى ودماء وصراخ وألم الناس وبشر يموتون بين يديك. من شهد مثل تلك اللحظات ليس قليلاً إن فكر بالعسكرة. وليس كل الناس خريجي جامعات أو مثقفين. لكننا نعلم أن لا سلاح مهما كان يمكن أن يواجه الدبابات. لذلك تغيب تلك الأفكار سريعاً.
محمد يتمنى قيام دولة إسلامية في سوريا الجديدة، لكنه يقول أن السوريين جميعاً هم من سيحددون شكل سوريا في المستقبل. المستقبل الذي يحلم به جميع السوريين رغم عدم ثقتهم أنه سيقدر لهم أن يشهدوه.
“عندما أخرج من بيتي أتوقع أن لا أعود، وعندما أنام أتخيل أن أستيقظ على أصواتهم وهم يقتحمون منزلي. الاعتقال والموت يعيشان معنا لحظة بلحظة”.
بطبيعة الحال، رغم كل المعاناة والألم، لا تخلو على الإطلاق لحظات شباب الثورة من السعادة الصافية. “أسعد لحظة مررت بها منذ بداية الثورة، كانت أول أيام العيد، ضحكنا من قلوبنا ونحن نهتف: فصَلنا كرسي جديد. نوعو تيفال مو حديد. يلا ارحل يا بشار…”.