محمد مصطفى الصالح: عناد وحمادي

في غرفة فسيحة مفروشة أرضيتها بمد عربي، في منزل ما يبدو من لهجة سكانه أنه يجاور الفرات من إحدى ضفتيه، يجلس رجل نسمع صوته ولا نراه، يحمل جهاز المحمول بيسراه يصور طفلين مذعورين، يبدو أنه والدهما. عناد وحمادي، 7 و6 سنوات تقريباً، يقفان عاريي الصدر وقد رفعا أيديهما كأسيرين انتهتْ للتو حربهما بالهزيمة. يقول الرجل: “تعالوا تا كل واحد ياكل كف”. يتقدم الطفلان، كل بدوره، يصلا إلى مسافة قريبة من كاميرا المحمول الموجهة إلى وجهيهما لتلتقط وتسجل تفاصيل خوف مستسلم وترقب وقلق يائسين في تعبيراتهما.

يأتي عناد، الأكبر، أولاً، فيمسك الرجل أذنه ويسأله: “أنت أنوب تحجي (تحكي)؟”؛ فيجيب عناد: “لأ”؛ فيصفعه الرجل، ليعود الطفل إلى مكان وقوفه. أثناء ذلك يقترب حمادي من متناول ذراع الرجل، فيمسكه من أذنه أيضاً ويسأله السؤال نفسه” أنت أنوب تحجي؟”. فيجيب حمادي: “لأ”. يتكرر الاستجواب والصفع، مرة إثر مرة، وتزداد قوة الصفعات فيسقط الطفلان على إثرها لينهضا ويعاودا الكرة.

الرجل ثابت في جلسته، لا نرى شيئاً من هيئته سوى سبابة يده اليمنى تُشير وتأمر، تنوب عنه، تحل محله، لكن نبرة صوته ومفردات قاموسه تحققان ما يلزم المشهد من صرامة وعنف وسادية، فيبدو غائباً وكلي الحضور، قريباً وبعيد المنال في آن. وكاميرا المحمول ثابتة في وجهتها، ترصد الجزع وقلة الحيلة وانقطاع الرجاء في عيون الطفلين، تتجسس وتدون كل حركة، كل التفاته، كل تغير في اتساع أحداق العيون؛ والتسجيل الصوتي يمتص النبرات والعبرات ويعلن هزيمة الكلمات الحائرة أمام اللغة الزاحرة. الطفلان يتحركان. يأتيان إلى متناول الرجل، قبالة الكاميرا، يتناولان الصفع، يسقطان، ينهضان ثم يعودان إلى مكان وقوفهما؛ صفعة، سقوط، نهوض، مشي إلى منتصف الساحة (الغرفة) ثم، مرة أخرى يسلمان وجهيهما للصفع فيسقطان وينهضان، ربما ست أو سبع مرات.

يبدو أن المشكلة في الأصل مشكلة حكي، ربما كلام غير لائق: قلة أدب، “فلتنة عجيان” (ولدنة صبيان)، لا ندري؛ لكنها تتحول بعد الكف الرابع من مشكلة الحكي وصنع المشاكل إلى سؤال “الرجولة”؛ إذ يفشل حمادي في الاستجابة الملائمة للموقف، فيتهدج صوته ويبدأ بكاءاً يعمل الصغير على مغالبته وكبته، وحتى إنكاره، ما يستثير غضب الرجل الذي يأمره: “صير زلمة!”. ويصبح السؤال التالي، قبل الصفعة التالية: “شتصير أنوب؟” (شو لازم تصير؟). فيرد حمادي باكياً: “زلمة”. وقبل الصفعة السادسة يُخطيء عناد الإجابة عن سؤال: “شتصير أنوب؟”. إذ يرد: “أصيرُ آدمي”. وكان يجب أن يقول: “زلمة”. لكن الصفعة السادسة وفركة الأذن قبل الكف السابع (وهو تكرار للكف السادس الذي لم يكن قوياً بما يكفي) تجعله يدرك خطأه ويعود إلى جادة الصواب ليقول: “زلمة”. والنداء على “الزلم” يكون بـ: تعال، أنت، الحمار ذاك، الكلب. ودمعة من حمادي كفيلة بـ: “أشيل وزرك”.

عناد وحمادي يسلكان بطريقة آلية، يعرفان أين يقفان هناك في وسط الغرفة، ومتى يأتي كل منهما بدوره ليسلم أذنه دون مقاومة ليتمكن الأب من توجيه صفعة بملء راحة يده. عناد أكثر دربة، فهو مرة يدفع أخيه عندما يتلكأ الأخير قليلاً، هو أكثر انضباطاً وطواعية وخبرة. الاعتياد ظاهر في سلوكي الطفلين، لكننا لا ندري منذ متى. قد لا يستغرب أو يُدهش أو يمتعض أو ينفر الكثير منّا مما يرى. وربما يعرف الكثير من الأجوبة حول لماذا وما ومتى وكيف وهل وماذا. لماذا يلجأ هذا الأب إلى كل هذا العقاب، ولماذا هذه الصورة العسكرية في تنفيذه، ولماذا توثيق هذا الإذلال والعنف الممنهجين؛ وما أصل كل هذه القسوة منه، ومتى ستُشفى روحا الطفلين، إن كان لهما أن تشفيا، من هذا الرض؛ وكيف تُرى سيعاملان بعد قليل أخوتهما الأصغر سناً والأقل حيلة والأضغف قدرة وزملائهما في المدرسة وأبناء جيرانهما في الحارة؛ لكن هل رأى عناد وحمادي نفسيهما يُعاقبان فيما بعد، هل ناداهما والدهما بعد أيام أو أسابيع باسماً وشغل لهما مقطع الفيديو هذا وقرب محموله منهما وراح يراقب تعبيرات وجيهما بشيء من تسامح القدير ومعرفته الكلية بما في نفسيهما؛ لكن، أيضاً، ماذا إن لم يشاهداه، وحدث أن أرسل والدهما المقطع إلى بعض أصدقائه متباهياً بقدرته على ضبط أبنائه ثم انتقل المقطع من محموله لسبب أو آخر – كما حصل ووصل إلينا؛ ومضت أعوام قبل أن يجد عناد أو حمادي نفسيهما أمام نفسيهما في محمول صديق أو خال أو بنت جيران أو زميلة في الجامعة أو ربما على شبكة الانترنت. مَنْ يتكهن بما سيجول في عقليهما وقتها؟.