مجند فار يروي قصة عذابه

رأفت الغانم

مضى على مغادرة عبد القادر سوريا ووصوله إلى الأردن سبعة أشهر بعد أن فر من الجيش، حاملاً معه حنيناً إلى وطنه وأهله بالإضافة إلى قصته التي لا يتردد في سردها.

“عندما أتحدث عن قصتي أخفف من ألمها،” يقول عبد القادر.

تبدأ هذه القصة عندما كان حارساً على بوابة مساكن الضباط في إزرع في محافظة درعا. كان الطلاب يأتون من منطقة الذنيبة للدراسة في مدارس مساكن الضباط، بسبب تحول مدرستهم لمقر للجيش ومعتقل.

إحدى المظاهرات في إزرع، درعا بعد إطلاق النار عليها عام 2011 – يوتيوب

حدثت مشاحنات بين الطلاب الوافدين وزملائهم من أبناء الضباط في المساكن، سرعان ما تحولت إلى شجار. في اليوم تجمع أبناء الذنيبة أمام البوابة الرئيسية للمساكن بعد خروجهم من المدرسة. أخرجوا أعلام الاستقلال من حقائبهم وبدأوا بالهتاف، “الشعب يريد إسقاط النظام؛” كان ذلك في أواخر شهر تشرين الأول/أكتوبر من العام 2011.

يقول عبدالقادر، “إرتبكت حينها، فهي المرة الأولى التي أشاهد فيها مظاهرة.”

دار نقاش بينه وبين زميله حولما يجب فعله، واتفقا على ترك الطلاب، متجاهلين الأوامر السابقة التي تحثهم على إطلاق النار على أية مظاهرة.

بعد فترة وجيزة وصل النقيب ونزل من سيارته يصرخ عليهم ويشتمهم، وبدأ بتصويب نيران بندقيته تجاه الطلاب وأعطى الأوامر لعبد القادر وزميله بإطلاق النار فوراً.

“نظرت إلى زميلي ووجدته ينظر لي بارتباك لكنه باشر بإطلاق النار.”

وقف عبد القادر مذهولاً، كما يقول، ينظر إلى الطلاب يسقطون أمامه ويصرخون الله أكبر؛ هم أنفسهم كانوا يلقون عليه التحية كل صباح ويشاركونه وجبات طعامهم المدرسية في بعض الأحيان. لم يحتمل الوقوف كثيراً أمام ذلك المنظر، كما لم يجرؤ على الهرب خارج المساكن خوفاً من أن يصيبه الرصاص، فهرب إلى داخل المساكن.

إختبأ عبد القادر بين الأشجار، وهو يتساءل، “ماذا أفعل الآن؟” فالمساكن محاطة بالجنود ولن يترددوا بإطلاق النار عليه إذا ماحاول الهرب. بقي لمدة تزيد على الساعتين في حالة من الذهول والخوف، قبل أن يقرر الذهاب إلى المفرزة في المساكن. أثناء سيره إلى المفرزة خلع الجعبة وفك المخزن حاملاً بندقيته بيده، ما يدل على الإستسلام في العرف العسكري.

تعرض عبد القادر للشتم الضرب على يد النقيب ثم اللواء قائد الفرقة قبل سوقه إلى الزنزانة.

في اليوم التالي صباحاً، تم وضع كيس أسود فوق رأسه وأُخذ بسيارة دون أن يخبروه إلى أين. في الطريق لم يسمع أي صوت ولم يعلم عدد مرافقيه. بعد فترة زمنية تقارب الساعة وصل أحد الأفرع الأمنية دون أن يعلم ماهو الفرع أو أين يقع.

عندما دخل الفرع بدأ الحراس بضربه ثم اقتيد إلى غرفة حيث قاموا بنزع ملابسه بالكامل، ثم أداروا رأسه نحو الحائط ونزعوا الكيس عنه وعصبوا عينيه. بعد ذلك اختفت أصواتهم لدقائق قبل أن يعودوا ويسكبوا عليه الماء بغزارة، وينهالوا عليه ضرباً حتى وقع على الأرض ممدداً، ثم بدأوا بصعقه بالكهرباء.

بقي على هذه الحالة ما يقارب الثمانية عشر يوماً؛ صعق كهربائي بشكل يومي، وغالباً ما يفقد الوعي، بالإضافة إلى الضرب بالأسلاك الكهربائية على مناطق متفرقة من جسمه. كان يتلقى رغيف خبز واحد في اليوم، بالإضافة إلى الماء.

“رغيف الخبز كان إما يابساً أو عفناً، أما الحمام فهو الغرفة نفسها،” يقول عبد القادر.

بعد ذلك نقل من غرفة التعذيب إلى زنزانة ضيقة، يخرجونه منها إلى غرفة يوقفونه بداخلها على كرسي ويضعون حبل المشنقة حول رقبته وضوء أصفر متوهج مسلط نحو عينيه. كانوا يتركونه واقفاً على الكرسي ويغادرون الغرفة، بحيث لو تحرك وانزلق عن الكرسي سيكون الموت نصيبه. كان يقف يصارع الموت لما يقارب الأربع ساعات، قبل أن يعيدوه إلى الزنزانة ليبقى بداخلها ما يقارب المدة ذاتها، ويعيدوه مرة أخرى لحبل المشنقة.

بقي على هذه الحالة ثلاثة أيام، بين الزنزانة وحبل المشنقة، وخلال هذه الفترة لم يوجهوا له أي سؤال.

“لمَ فعلت هذا؟ من هم أصدقاؤك؟ أين تتردد؟ – لم يوجهوا أي من هذه الأسئلة،” يقول عبد القادر.

في أحد الأيام لم يأتوا لأخذه ليخضع للتعذيب المعتاد. بعدها جاءه العنصر الذي يضع له الخبز. تجرأ عبد القادر على الحديث إلى الحارس وسأله عن مكانه. أخبره الأخير أنه لا يستطيع أن يقول له ذلك، لكنه قال إنهم قرروا إيقاف التعذيب ونقله إلى الفرقة 18 بعد أن عدلوا عن تصفيته في المعتقل، وطلب منه التنبه في الطريق لأنه سيكون مراقب، وغادر على الفور.
في اليوم التالي جاؤوه وطلبوا منه ارتداء ملابسه. وضعوا رأسه في كيس أسود واقتادوه إلى السيارة حيث أعادوه إلى مفرزة مساكن الضباط في إزرع. بعد بضع ساعات قابل الضابط المناوب، الذي طلب منه أن يجمع “العدة الميدانية” ويسلمها. وجد خزانته قد كسرت وسرق منها بعض المعدات. ولكي يعيد جمعها، قام بدفع مبالغ مالية للمجندين كي يعطوه ما ينقص. بعدها قام بتسليم عدته كاملة وحصل على براءة ذمة، ثم اتجه إلى العميد المسؤول عن أمن الفرقة، فطلب منه البصم على ورقة “مهمة نقل” وهي نقله من الفرقة الخامسة في درعا إلى الفرقة 18 التي كانت تتولى حصار حمص.

“تذكرت حديث السجان،” يقول عبد القادر.

أخبره الضابط أنه عليه التوجه وحيداً إلى مقر الفرقة الذي يقع بالقرب من دوار تدمر خارج دمشق. يقول عبد القادر إن عمليات النقل بين الوحدات العسكرية، على عكس النقل من معتقل إلى آخر، لا تتم بمرافقة أمنية، مما يفسر إرساله وحيداً إلى وحدته الجديدة.

يقول عبدالقادر إنه خرج مفكراً بكلام السجان،  وإذا ما كان مراقباً بالفعل ويضيف، “لم أشعر بشيء طول الطريق؛ لم أشعر بالزمن أو من هم حولي، فقد كان لدي هاجس كبير بأني مراقب.”

في دمشق، يقول عبد القادر إنه، وبحذر بالغ، إتجه لباب توما، وهناك لمح رجلاً يتبعه حيث كان برفقته أثناء الطريق بين درعا ودمشق، ما أكد مخاوفه بانه مراقب. بعد ذلك دخل في الزحام بين الناس وهو يمشي بسرعة حتى دخل عمارة يؤدي مدخلها الخلفي إلى شارع آخر.

لم يكن عبد القادر ينوي الإلتحاق بوحدته الجديدة؛ بقي متخفياً حتى استطاع اللجوء إلى الأردن.

سألت عبدالقادر، بعد أن أنهى حديثه، إذا ما فكر تحت الألم والخوف أن يستسلم لحبل المشنقة، فأجاب، “كنت أفكر بذلك جراء التعب النفسي والبدني لكني صبرت وكنت أقول لنفسي إن هناك ما هو أجمل في المستقبل.”