لكن هل المشكلة فعلا في قانون إعلامي قمعي؟!
كان من الطبيعي أن يغدو الانترنت مساحة أساسية يتحرك فيها وعبرها نشطاء سوريا ومثقفيها، من أصحاب الأصوات الداعية للتغيير. ما لم يكن متوقعا، أن تغدو تلك المساحة مع الوقت من غير رديف حقيقي على أرض الواقع، وأن تضيق الهوامش الصغيرة التي أتيحت لفترات، إلى حد التلاشي. وأن يصبح الانترنت واحة المنتديات والحوارات الوحيدة، ووسيلة التواصل والإعلام والإعلان شبه الوحيدة لجزء واسع من الطيف الحقوقي والديمقراطي السوري.
السلطة ليست بغافلة عن هذه الحقيقة. عشرات المواقع حجبت لأنها لا تتفق وخط النظام الرسمي. مواقع التواصل الاجتماعي كالفيس بوك اعتبرت “مضرة” بالأمن الوطني، لما توفره من فرص التلاقي والحوار وحشد الرأي العام حول قضايا معينة. التعليقات والمشاركات الفردية في المنتديات والمواقع المختلفة هي تحت رقابة صارمة.
السلطة ملمة تماما بالقدرات التي تنطوي عليها المساحة الافتراضية، لنشر المعلومة أو الترويج لقضية وحشد رأي عام حولها، خاصة، مع انتشار الوسائل المساعدة، الموبايلات التي يمكن من خلالها الولوج للشبكة، أو التقاط الصور وتوزيعها…الخ. والأمثلة قريبة من دول مجاورة..مظاهرة ابريل في مصر، واحتجاجات الإيرانيين التي سجلتها الموبايلات ونشرتها شبكة الانترنت لحظة بلحظة.
هل تكون تلك المخاوف هي إحدى الأسباب أو أهمها، وراء إصرار الحكومة على إقرار قانون للإعلام الالكتروني؟! تجمع الآراء حتى الآن على قمعية ذلك القانون المنتظر، واعتباره مكملا لقانون الإعلام المكتوب بحيث يشكلان سياجا حول الصحافة السورية وغربلة لغير المرغوب فيها رسميا.
والواقع أن تلك التوقعات كانت لتكون في محلها لولا عدد من التفاصيل الصغيرة التي تشكل لدى تجميعها الصورة الحقيقية للإعلام الالكتروني السوري.
اعتقالات ومحاكمات حتى بدون قانون خاص!
جميع مواقع المعارضة والمنظمات الحقوقية محجوبة من جهة، وتدار من الخارج في معظمها من جهة أخرى. أي منها لا يتمكن من الاستفادة من سوق الإعلانات، فضلا عن أن عدم وجود قانون ينظم الإعلام الالكتروني، لم يمنع من اعتقال كتاب ومثقفين ومدونين عبروا عن آرائهم بمقال أو تدوينة أو حتى تعليق في هذا الموقع أو ذاك، ومن ثم محاكمتهم وفقا لمواد قانون العقوبات السوري أمام المحاكم العادية والاستثنائية وإصدار أحكام قاسية بحقهم.
أما لجهة المواقع الإخبارية – المنوعة، على كثرتها، فكثير منها يحظى بدعم ومباركة الأجهزة الأمنية، واستقلاليتها، تتوقف عند الخطوط الحمراء المرسومة لها مسبقا، حيث يحظر عليها نقد النظام السياسي، نشر أدبيات المعارضة والمنظمات الحقوقية، ويطلب منها مناصرة مواقف السياسة الخارجية للنظام، عبر فتح جبهات من الحرب الكلامية على دولة أو فريق في وقت ما وظرف ما (كموقف تلك المواقع من السعودية في مرحلة من المراحل، وكذلك مصر، وفريق 14 آذار اللبناني…الخ)، والسماح بإنزال الغضب كله على الفريق الحكومي باعتباره مسؤولا عن مصائب الشعب المعاشية والحياتية، بما ينفس عن الغضب الشعبي حول أوضاعه الاقتصادية المتردية ويرمي باللوم على أدوات تنفيذية لا تملك من قرارها شيئا، هذا بالإضافة إلى مهمة تسريب الرسائل الأمنية حيث يقتضي الأمر (ومن ذلك مثلا مانشرته تلك المواقع مؤخرا من رسائل أمنية تتعلق بقضية المدونة الشابة طل الملوحي، من حيث اتهامها بالجاسوسية وتشويه سمعتها أخلاقيا حتى قبل إحالتها لأي قضاء).
لا نقول أن تلك المواقع لا تقوم بدور مهم في نشر الأخبار المحلية التي تتغاضى عنها الصحافة المحلية المطبوعة، ولكن، تلك المواقع يحكمها ما هو أقوى من أي قانون، وغني عن الذكر أن أحدا لا يستطيع الحصول على “كرت” غض نظر لإنشاء موقع وتوظيف صحفيين والحصول على إعلانات تموله، من غير موافقة ومباركة أمنيتين.
خطوة إضافية نحو ضبط المشهد الإعلامي..
في المجمل، المشهد الاعلامي الالكتروني السوري مضبوط إلى درجة كبيرة، وما ينتظر من القانون الجديد ربما، هو قوننة هذا الضبط الأمني، أو بالأحرى إضفاء طابع قانوني على الضبط الأمني.
بالتأكيد، فتلك خطوة جديدة نحو الوراء، نحو إحكام السيطرة على الفضاء الإعلامي السوري، لكن من المستبعد أن يكون لها أثر “إنقلابي” على المشهد الحالي للإعلام الالكتروني المحلي.
ولعل المطلب الأكثر إلحاحا من قانون عادل يحمي الحقوق بدل أن يزيد من القيود، هو تطبيق القوانين بنزاهة وعدالة ومن غير تدخلات وإيعازات أمنية.
ليست المشكلة في القوانين، طالما أنها مجرد أدوات أخرى من بين الأدوات التي تستخدمها الأجهزة الأمنية لفرض إرادتها ورؤيتها على جميع مفاصل الحياة في سوريا ومن ضمنها الإعلام. المشكلة أنه بوجود القوانين القمعية أو غيابها تبقى الكلمة الفصل للأيدي الخفية التي تحرك القوانين ومشرعيها ومنفذيها على السواء.
ما هو ثابت، أن شريحة واسعة من السوريين وجدت طريقها إلى عالم الانترنت بحثا عن المعلومة وتعبيرا عن الرأي، لكن من الواضح أيضا، أن هذا الاستخدام لا يزال محدودا جدا ومضبوطا جدا إذا ما قورن بدول أخرى مجاورة. وطالما أن الحال هكذا حتى من قبل وجود قانون قمعي خاص بهذا الحيز الإعلامي، فالأجدى التفكير بطرائق وأساليب استخدام الحراك الحقوقي والديمقراطي أو حتى المستقل الهادف، لساحة الانترنت خلال السنوات الماضية، من أجل تفعيل هذا الهامش المكتسب بفعل ثورة الاتصالات والتكنولوجيا، لا بفعل “النضال” الوطني، ولا “مكرمات” السلطات الحاكمة.