لحلاوة النصر طعم لا ينسى والعيد في كفرنبل
كنت أتابع دراستي في كلية الآداب في جامعة إدلب، التحقت بالجامعة في 5 آب/أغسطس 2012، وفي صباح اليوم التالي بدأت معارك التحرير في مدينتي كفرنبل. علمت بنزوح جميع أهاليها، وأنه لم يعد باستطاعتي العودة إليها.
خفت كثيرا لبعدي عن أهلي في هذه الأيام الصعبة التي لم نكن نعلم نهايتها. كنت أخاف ألّا ألتقي بعائلتي، خاصة أن الاتصالات قُطعت في تلك الفترة عن مدينتي وما يحيط بها. لكن الحمد لله توفرت شبكة اتصال لاسلكية تعمل في إدلب المحافظة، كان رقمي لنفس الشركة، وصلتني رسالة من رقم مجهول كتب فيها “بحثنا عن مكان يوجد فيه تغطية لنرسل لك هذه الرسالة، أطلب منك أن تذهبي إلى مدينة خان شيخون إلى صديقي أبو أحمد لأننا خارج المدينة، علهُ يجد طريقة لإيصالك إلينا في قرية كنصفرة، عند وصولك اسألي عن منزل الشاب نزيه ليقودك إلينا.. والدُك”.
سارعت لتنفيذ ما طلبه مني أبي، وصلت بعد رحلة متعبة وشاقة، لأن السائق سلك طريقاً طويلة، للابتعاد عن المناطق الخطرة، كنت خائفة جداً فالطائرات كانت تملأ السماء، وأصوات القصف قوية جدا.
سارع الرجل الذي طلب مني والدي الذهاب إليه لإحضار سيارة، وطلب من زوجته أن تأتي معنا، كانت الطريق فرعية لكنها أكثر أماناً من غيرها.، لم يكن أحد في الطريق سوانا، فقط أصوات الطائرات والقذائف التي كانت تجعل كل المنطقة تهتز من قوتها. وبعد مسير متقطع بسبب الخوف من القصف وصلنا بعد ما يقارب الساعتين، وبدأنا نسأل حتى عثرنا على منزل الشاب نزيه. كان منزلاً صغير مؤلفاً من غرفتين ومطبخ، كان لشقيق نزيه وزوجته وتركوه لأجلنا. وطلب نزيه من أخي الذي أصيب في المعركة السابقة لتحرير المدينة والتي باءت بالفشل أن يحضر أهلي ومن يريد إلى المنزل. فقد كان نزيه صديقاً عزيزاً لأخي.
وجدت عائلتي وعائلة شقيقتي الكبرى، وعائلة صديقة لها. كنا 19 شخصاً كان الرجال ينامون في غرفة والنساء والأطفال بالغرفة الأخرى. كان شهر رمضان، حيث كنا نحضّر الطعام ونجلس جميعا على مائدة واحدة، هذه الأيام جعلت من الناس يتقربون من بعضهم أكثر فأكثر، وخاصة أن أهالي مدينة كنصفرة طيبون جداً وأصحابُ نخوة وشهامة، كانوا يقفون في الطريق لمساعدة النازحين والاصرار عليهم بالبقاء في منازلهم، ولشدة ازدحام النازحين إليها جلست كل عائلتين أو ثلاثة في منزل.
رغم نزوحنا إلى بلدة كنصفرة لم نكن بمأمن، فبعد ثلاثة أيام استيقظنا مرعوبين في الساعة السادسة صباحاً على صوت صواريخ ألقتها طائرة على منزل بالقرب منا. استشهد ثلاثة أشخاص من عائلة واحدة، العائلة كانت مثل عائلتنا، نزحت لتحمي نفسها لكن الأجل حضر في ذلك الوقت.
لم تتوقف رحلة النزوح تلك، فبعد القصف الذي تعرضت له بلدة كنصفرة شعر كل من في البلدة بالخوف وقام أكثر سكانها بالنزوح خارجها.
ذهبنا إلى منزل في قرية كانت تسمى “الموزرة”، حيث اصطحبنا زوج أختي الطبيب إلى منزل رجل كان يأتي إليه ليعالج ابنه الصغير، بقينا يوماً واحداً وفي اليوم التالي تحررت مدينتنا كفرنبل بتاريخ 10 آب/أغسطس 2012، لنعود إليها، لن أنسى تلك الأيام رغم أنها قليلة لمرارتها، رغم هذا الأسى الذي لاقيناه كنت سعيدة بالتحرير، فرغم الموت والدمار ورغم كل شيء “النصر جميل”.
في 19 آب/أغسطس 2012 حلّ العيد ليكون ضيفا ثقيلا على أهالي المدينة، وخصوصاً على قلوب الأمهات والزوجات المكلومات بفقدان عزيز عليهن في تلك المعركة التي خلّفت أكثر من 100 شهيد. ألبس الحزن بيوت الأهالي أثواب الحداد، لتعلم بمجرد المرور في شوارع المدينة بأن شيئا جللا وقع فيها. خوف يسكن قلوب السكان عامة وقلوب الأطفال خاصة بسبب القصف المكثف الذي طال المدينة بعد التحرير، لتذهب فرحة الأطفال وتختفي الابتسامات الجميلة. امتلأت مقبرة الشهداء بالناس صبيحة العيد فكلٌ له خله الذي فقده.
نسرين الأحمد، (33 عاماً) من كفرنبل في ريف ادلب. أم لولدين توقفت عن دراستها الجامعية في السنة ثالثة أدب عربي بسبب الأوضاع الأمنية.