لا شيء في منزلنا اليوم إلا وحشة وبرد وآهات

 

“سأبيع أثاث المنزل، ونغادر المدينة. لم اعد أحتمل هذا الكم الهائل من الضغط والخوف وعدم قدرتي على التحرك في المدينة بسبب داعش، سيجدنا أباكِ أينما كنا”.

لم تكن تلك الكلمات موجعة للوهلة الأولى، بل كانت مطمئنة  خصوصا مع بدء ضربات قوات التحالف، واتخاذ  داعش من المدرسة الابتدائية المقابلة لمنزلنا مقرا لها، هي تلك المدرسة التي كان يرتادها إخوتي هناك حيث لعبنا كرة السلّة في ملاعبها لأكثر من ثلاث سنوات.

بالرغم من استمرار احتجاز داعش لأبي إلّا أنني شعرت بالراحة النسبية، ربما بسبب انتقال باقي أفراد الأسرة إلى منطقة آمنة، لكنّ هذا الشعور لم يدم أكثر من كم يوم، بل اندحر مع بدء أمي ببيع أثاث المنزل وشعوري بتبعثر ذكرياتنا مع هذا الأثاث.  مع أول غرض باعته انهمرت دموعي دون سابق إنذار أو اعتبار لكون الأثاث قديماً، ورغبة أمي بتبديله قبل أن تندلع الثورة ويتدهور الوضع. أن تكون مجبراً على بيع الأثاث بهذه الطريقة بدا الأمر مؤلماً بالنسبة لي، لاسيما أن بعض الأشياء يقارب عمرها عمرنا. لم أتخيل يوما أن مكتبة أبي التي منذ أن فتحت عيوني وجدتها أمامي ستصبح في منزل أشخاص آخرين، وكتبه الثمينة التي جمعها منذ شبابه بعضها بالسر وبعضها من بلدان أخرى وبعضها نادر باتت اليوم موضبة بعلب كرتونية على السقيفة بعد أن كانت مرتبة ومعروضة بعناية فائقة.

هذا الأثاث الذي جمعه أبي بصبر خلال أكتر من عشرين عاماً من عمله كطبيب،  تم بيعه بسهولة وبغيابه في المعتقل. لم أستطع احتمال فكرة أن شخصاً ما سينام على سريري  ويستخدم وسادتي، أن شخصاً ما سيكون له ذكريات جديدة في منزلنا بعد ذكرياتنا فيه.

أين ضحكاتنا اليوم، أين سهراتنا، صدى أصواتنا وأحاديثنا وحتى دموعنا؟

لا شيء في منزلنا اليوم إلا وحشة وبرد وآهات أطلقناها خلال عام من غياب أبي، لا شيء فيه.

حاولت تمالك نفسي ونسيان منزلنا الذي بدأ يفرغ من أثاثه، بدا جاهزاً لأن يستلمه شخص أخر. جاء اليوم المحدد لسفر أهلي إنه 13 أوكتوبر/تشرين الأول 2014. رغم معرفتي بالموعد مسبقا شعرت بالمفاجأة، أحسست بغصة في حلقي مع كل جملة  كتبوها على الفيس بوك وقرأتها. كانت دموعي تنهمر مع كل حرف كتبوه رغم بساطته أو عدم اقترابه من موضوع سفرهم.

أحسست ذاك اليوم بشعور المغترب، رغم أنني لا زلت في مدينة حلب أي لا أزال في سوريا. كنت مدركة أن لا عودة لنا إلى الرقة، حتى إن خرج أبي في نفس اليوم، فبعد الجراح التي ألحقتها بنا هذه المدينة وبعد الألم الكبير الذي سببته لأبي لن نتمكن من المكوث بها ابداً. رغم قناعتي الكاملة بهذه الحقيقة ألا أنها كانت تربكني وتدفعني للجنون والبكاء. لم أستطع احتمال فكرة أنني لن أمشي بشوارعها بعد اليوم، لن أشهد مطرها وأتنشق رائحة فراتها. لم استطع احتمال فكرة أنه بعد خروج أبي من معتقله لن يجد شيئاً على حاله.  لن يلتم شملنا معه من جديد في ذاك المنزل.

لم تنقطع دموعي في ذاك اليوم، تمزقت ألما خصوصا عندما شاهدت صور منزلنا فارغاً. استيقظت في اليوم التالي ووجنتاي تؤلماني من كثرة ما سالت الدموع عليهما، اليوم الذي مضى بدا كابوساً لكن لا يزال الأمل بأن تصدح ضحكاتنا في ذاك المنزل.