لأجله حيث هو في زنزانات الظلام

لم تستسلم أمي لقدر تغييب أبي. رفضت الخضوع، كانت تدوس على قلبها الجريح وتحاول جاهدة الحصول على مساعدة للوصول إلى رفيق دربها وروحها. كلما تحدثنا معها عبر شبكة الأنترنت، نحن من نقيم في محافظة أخرى،  كانت تخبرنا كم من الأبواب طرقت بحثاً عن المساعدة، وكم من الأشخاص رجت، علّهم يعطونها طرف الخيط إلى زوجها المختطف. وأمام كم من شيوخ العشائر ذرفت دموعها.

كان مجرد الكلام عن مثل تلك المواقف يجعل قلوبنا تعتصر ألماً. أن تخيل أمك العظيمة المحترمة والمبجلة من قبل الجميع في أول سنتين من الثورة، تتعرض لهذا الكم الهائل من الذل، يجعلك تتمنى الموت لا أكثر. كنا بعيدين وكان القهر يهشم أرواحنا، إلى أن جاء اليوم الذي عدنا فيه إلى الرقة، وفي اليوم التالي كان على أمي الذهاب إلى أحد الشيوخ لتعيد السمفونية التي اعتادت تكرارها أمام الجميع. طلبت مرافقتها إلى منزله لأنه لا ثقة لنا بهؤلاء الشيوخ، إلا أنه لم يكن على لسانها سوى هذا الجواب “لا وحياة الله لن أسمح لهم برؤيتكم، لن أزج بكم في مثل تلك الدوامة، هم أشخاص قذرين لن أسمح بذلك”. كانت تخاف أن نقع تحت نظرهم ويسرقوننا من حضنها، لاسيما بعد تردد إشاعات كثيرة في بداية سيطرة داعش على المدينة حول المجاهدين الذين يتزوجون بالفتاة التي تعجبهم رغماً عن أهلها. ولكن بعد إصراري سمحت لي أمي بمرافقتها شريطة ألا أرفع نقابي أمامهم. ارتديت اللباس الشرعي كاملاً “عباءة ونقاب”. كنت للمرة الأولى أتجول في شوارع الرقة بعد سيطرة “الغربان” عليها. شعرت بخوف شديد لدرجة أنني أمسكت بيدها ومشينا كما الفتيات السوريات يظهرن في المسلسلات القديمة “لباس أسود وخطى سريعة”. وصلنا إلى منزل سماحة الشيخ المبجل. قرعنا الباب وإذ بامرأة متوسطة العمر تفتح لنا. عرّفت أمي عن نفسها وطلبت مقابلة الشيخ، وفعلا بعد انتظار عدة دقائق دخل حضرته يلبس زي العرب ولحيته سوداء طويلة وعلى رأسه جمدانة حمراء (كوفية أو شماغ)  “أهلاً وسهلاً أختي، كيف لي أن أساعدك؟” عندها أطلقت أمي جملها المعتادة مصحوبة بدموعها الصادقة “داخلة على الله وعليك يا شيخي، أطلب مساعدتك، ليس لنا غيركم بعد رب العالمين.”

لم أستطع تحمل تلك الكلمات فأطلقت شهقتي الأولى، وذرفت دموعي التي سترها النقاب. شعرت بأن أحداً ما قد صفعني مراراً. أردت لحظتها أن أمسك يد أمي وأسحبها من ذاك المنزل القذر، لكنني تمالكت نفسي لأن أبي يستحق أكثر من ذلك حتى. أكملت أمي “ليس لنا أنا وفتياتي سوا زوجي معيل، أنظر هل يجوز أن تبقى الحريمات بلا سندهن، زوجي غائب منذ أربعة أشهر وبلا ذنب، إسألوا عنه في مدينة الرقة الجميع يقول بحسن سيرته”.

لم أستطع تحمل حالة التضرع تلك، أمسكت بعباءتي وشددتها محاولة تخفيف توتري. عيناي  الدامعتان تراقبان ذاك الشيخ، تمنيت لحظتها لو استطعت أن أرد له تلك الصفعات التي أحسستها حقيقةً.

سألها “من هو زوجك يا أختي؟” وعندما أجابت باسمه بكل وقاحة رد عليها “لا حول ولا قوة إلّا بالله يا أختي. أنا أعرفه وأعرف أخلاقه لا يستحق ذلك. حتى أخي طلب مني أن أستفسر عنه، لكن لا تخافي إن أمره محلول لا تهمة مثبتة عليه”.

التمعت عيناي سروراً في تلك اللحظة، لأنه اعترف بتلك الكلمات أن أبي بخير وفي سجون داعش لكن ذاك لم يخفف مقدار الألم والحقد.

بدأت أمي بقليل من كلمات التعظيم علّه لا يكون منافقاً وكاذباً كغيره من الشيوخ “الله يوفقك يا شيخ، الله يوفقك ويسمع منك”.

لملمنا أنا وأمي أنفسنا المجروحة وغادرنا المنزل. بقيت طوال الطريق أفكّر كيف استطاعوا  اختطاف أبي  وإهانتنا، نحن من كنا في مقدمة الثوار، كيف لهم ذلك؟ نحن من هتف جانب الشباب وبصدورنا واجهنا النظام، نحن من ركضنا في حارات تلك المدينة هرباً من دورية أمن. وهم لم يكونوا أكثر من منافقين لذاك النظام أو  كتبة تقارير .

مضى على تلك الحادثة سنة كاملة. كانت قد تكررت كثيراً بعدها. مع تبدّل الشيوخ والمنازل، لم تيأس أمي رغم كذبهم ونفاقهم. كانت على يقين أننا يجب أن نضحّي ونفعل ما نستطيعه لأجل بطلنا، وأن عودته ستكون دواءً لكل تلك الجروح. مضى على تلك الحادثة سنة ولا يزال أبي قابعاً في زنزانات الظلام.