كم أود معانقة أرواح لم تخبرني بموعد رحيلها

سافر زوجي إلى بيروت بقصد العمل بعد أن ضاقت بنا سبل الحياة. بقيت أنا وطفليّ برعاية أهلي. مرّ على سفره شهر ونصف الشهر، وما تزال أصوات المظاهرات تعلو بين الأحياء .

في صباح يوم أربعاء في شهر آذار/مارس عام 2012  ، قررت الذهاب إلى بيتي لأقوم ببعض الأعمال المنزلية. أهلي قرروا القيام بزيارة يوم الخميس إلى مزرعتهم في الريف.

لم أكن أعلم حينها أن تلك الحظات هي لحظات الفراق القاسيه بدون وداع وإلى متى.

اقتحم وحدات تابعة لجيش النظام مدينة إدلب في صباح يوم السبت. كان أخي م. (32 عاماً) قائداً في إحدى كتائب الجيش الحر، وأخي الآخر هـ. (24 عاماً) من منشدي الثورة في إدلب،  وأخي م. (19) يلتقط صور الأحداث.

عند دخول الجيش، سمعنا أصوات الدبابات والأسلحه الثقيلة. شعرت بلحظات الخوف ترتعش في جسدي. فقدت الأمل برؤية أهلي مره ثانية.

مع الساعات الأولى لدخول الجيش، طرق الباب. سمعت صوت أخي م. يصرخ باسمي: “افتحي لاتخافي هذا أنا”. فتحت الباب، نظرت إلى وجهه، وجدت ابتسامة الحزن الشديد، ولكنه كان يخفيها خلف تلك العيون الجميلة. دخل بيتي، وقد زاد حزني عندما استقبلت أخي قائلة من خوفي عليه: “إذهب يا أخي، أرجوك”. لكنه رفض فيما كانت الدبابات تقترب.

سيدة تحمل كيس وتسير في أحد الأحياء في حي الأنصاري في حلب. تصوير: حسام كويفاتية

طلب مني أن يفطر معي، كأنه شعر بما شعرت به، أنه الفطور الأخير في حياته معي . طلب مني أن أقلي له البيض ومعه اللبن، أعددت له الفطور، والخوف يراودني. لحظات قاسيه سوداء حرقت قلبي بعد انتهاء الفطور. طلبت منه الذهاب ومغادرة إدلب. وعندها نظر أخي في عينيّ، كانت النظره الأخيرة في حياته. لن انسى تلك العيون السود التي امتلأت بالدموع . لكن لم اتوقع حينها‘ رغم تخوفي، أن تكون هذه هي لحظات الفراق بدون وداع.

سافرت بعد دخول الجيش إلى المدينة بستة أيام، لملاقاة زوجي في بيروت. لم يعد لي أحد في تلك المدينة. أحسست أنها مدينة مرعبة موحشة، وبدون أهلي وزوجي.

بعد وصولي إلى بيروت انقطعت الاتصالات والشبكات. سبعة أشهر لم اسمع صوت أحد منهم. بدأت اتصفح مواقع الأنترنت، لربما أجد خبراً يطفئ نار قلبي المشتعلة.

كنت أرى مقاطع الفيديو على اليوتيوب وأفرح عند رؤيتهم .بعدها بمدة بدأت أتلقى الاتصالات من أهلي فقد عادت لديهم الشبكات.

اتصل بي أخي م. وكانت آخر مرّة أسمع به صوته.

في صباح يوم الاثنين 4 آذار/مارس 2013، استيقظت من النوم والكوابيس. سمعت صوت طرق باب منزلي بشدّة. ذهبت إلى الباب لأنظر الطارق، فإذا به ابن عمي، دخل ويبدو عليه القلق والغضب. وقال لي: “أخوكِ استشهد”.

قلت له: “كاذب”.

بدأت بالصراخ الهستيري لبعض الوقت قبل أن أسأله بألم: “من هو الذي استشهد من إخوتي؟ لماذا لا تجيبني؟”

رد بصوت منخفض: “م.”

كانت تلك الصدمة التي لم أستطع معها التعبير عن تلك الفاجعة. كنت أقيم مع زوجي في ضاحية بيروت الجنوبية. ببيروت. سافرت انا وزوجي بسيارة خاصة لكي أرى أهلي وإخوتي بعد غياب سنة كاملة. ولم أتوقع مارأيت! استقبلني والدي بلحيته البيضاء. عيناه الذابلتان امتلأتا بالدموع. والدتي لم تستطع الوقوف على قدميها.

وأخواتي اللواتي احتضنتهن بحرقه قلب. لم أكن أتوقع أنني سأراهن بعد هذا الفراق، في هذا الوقت وهذه المناسبة. أما اخي هـ. صديق عمري والأقرب إلى قلبي. نظرت في عينيه الدامعتين كأنهما يحدثاني بصمت عمّا جرى.

وبعد انقضاء أيام العزاء، وأنا أركب السيارة، نظرت إلى وجوههم الذابلة الحزينة. كم تمنيت أن أبقى معهم وأن لا أفارقهم مرة ثانية. ولكن ما كل ما يتمناه المرء يدركه.

غبت عنهم في المرّة الثانية سبعة أشهر. حينها أصبت بالصدمة الثانية، وهي استشهاد أخي العزيز على قلبي هـ. في دير الزور في 25 تشرين الأول/أوكتوبر 2013. كنت مغتربة عن أهلي، أصابني التشاؤم يومها من رنين هاتفي. عندما فتحت الخط سمعت صوت بكاء شديد.

كانت أختي رزان تقول: “ياحبيبة قلبي لقد استشهد هـ…”

يا لتلك الصواعق التي كنت أتلقاها في غربتي. ماذا حصل؟ كيف؟ لماذا؟ لم أعرف تفسير تلك الاسئلة….

 

ليلاس هاشم، (31 عاماً) أم لصبيين٫ نزحت إلى لبنان مع زوجها عندما دخلت وحدات تابعة لجيش النظام إلى إدلب. عادت قبل ثمانية أشهر إلى ريف إدلب، وعندما أصبحت المدينة تحت سيطرة المعارضة عادت أخيراً إلى بيتها.