كارثة قدسيّا
أجهشت سيّدة مسنّة بالبكاء، وساد صمت مطبق في حافلة النّقل العام، المليئة بالموظفين وطلاب المدارس، العائدين إلى بيوتهم، في ذاك اليوم الخريفي من أيّام دمشق.
كانت المرأة قد شدّت انتباه الجمع الصاخب، بعد رنين هاتفها، وردها المصحوب بالصراخ والنحيب بجملة صدمت الجميع: “بالمناشير ذبحوا الناس في قدسيّا.” إنفجرت تبوح بأوجاعها بعد أن احترق بيتها واعتقل أقرباؤها وقتل إبن أخيها.
هذه الحادثة رواها لي صديقي أحمد بعد بضعة أيام من اقتحام الجيش النظامي بلدة قدسيا في ريف دمشق يوم الأربعاء في الثالث من تشرين الأول/أكتوبر من هذا العام.
كان أحمد الوحيد الذي تجرأ على مواساة هذه السيدة، بكلمات فضفاضة لا تلامس الألم، كما قال لي، وسط خوف باقي الركاب من أن يوجهوا إليها نظرة عطف قد يرصدها عنصر أمن متخفٍ.
أتاني أحمد متعباً من حادثته تلك، ومما ألمّ به وبأهله، إذ يقطنون في قدسيّا أيضاً. عاشت عائلته أيّاماً دفعتها، كمعظم الأهالي، إلى مغادرة تلك البلدة الواقعة على هضبة من هضاب غوطة دمشق الغربية بين عدد من المناطق السّاخنة، الزبداني ودمّر والهامة. هذه البلدات واكبت قدسيّا في بداية حراكها الثوري، لكنها لم تشابهها في خسائرها وأحزانها.
روى لي أحمد ما حدث لأهله، وكيف جاهد محاولاً الوصول إليهم، قبل بدء قصف امتد لثلاثة أيام، وأنهى الحياة في بلدة لطالما ضجّت بزحامها. قابلت أهله بعد أيّام في بلدة برزة في ريف دمشق حيث يقطنون الآن، بعد أن تعرض منزلهم للنهب والتدمير. كانت أخته الصغرى ذات السّبعة عشر عاماً، داليا، الأكثر حماسةً في الكلام عمّا حدث:
“كنت قد خرجت وأمي لنشتري الخبز صباحاً، بعد أيام من الخوف والترقب. رأينا أفراداً من الجيش الحرّ يسرعون في سيّاراتهم وهرولةً على الأقدام، في اتجاه منطقة الثورة. صرخ بنا أحدهم بأن نعود أدراجنا ونحتمي في منزلنا لأن الجيش قد حاصر قدسيّا. أسرعنا بالعودة إلى البيت في الوقت الذي أصابت فيه أولى القذائف الشارع الذي نسكنه، وتوالت أصوات الضربات متلاحقة، واحدة بعد الأخرى. إنكسر زجاج الشرفة والنوافذ، فاضطررنا للإختباء في الحمام، أنا وأمي وأختي، نترقّب نهاية قادمة في أي لحظة ونشعر بها.
كانت رائحة البارود تنفذ قويّة حيث نقبع، وأصوات القصف المتوالية لا تنفكّ تجعل إحدانا تصرخ برعب، في ظلمة انقطاع التيّار الكهربائي عن البلدة. بين القذيفة والأخرى كنا نستغرب كيف بقينا على قيد الحياة، وقد اختلطت سعادتنا مع مشاعر الخوف.”
تقول داليا إن تساقط الصواريخ استمر حتى مساء الأربعاء، وبعدها تمكنت مع أختها وأمها من إيجاد حافلة تقلهنّ إلى خارج البلدة بعد أن شقت طريقها وسط الدمار. لم يمنع عناصر الحاجز الذي أقامه الجيش النظامي على الطريق المؤدية إلى خارج قدسيا خروج النساء والأطفال، بل أوقفوا الحافلة وأمروا سائقها بإخراجهم من البلدة. كان أحمد في بيت صديقه خارج قدسيّا في اليوم السابق للقصف، وبقي عنده حتى خرجت عائلته من البلدة، إذ منع الجيش دخول أي أحد طوال مدة العملية العسكرية التي اسمرت حتى الخامس من تشرين الأول /أكتوبر. كما كان والده بعيداً مع عائلته الثانية، كحاله منذ سنوات.
ذهب أحمد وعائلته بعد حوالي أسبوع ليطمئنوا إلى منزلهم، حالهم حال كثيرين، بعد أن شاهدوا في الإعلام الرّسمي إعلان الجيش تطهير المنطقة من العصابات المسلحة، مما يعني بالضرورة انتهاء أعمال السلب والتخريب التي يقوم بها الجيش النّظامي عادة.
سُرق جهازا الحاسوب اللذان كانت العائلة قد تركتهما لألّا يتم اعتقال أي أحد تحت شبهة النشاط المعارض، بالإضافة إلى تلفاز جديد، ومعظم أجهزة المطبخ. حمدوا الله أنّ خسائرهم اقتصرت على ذلك، إذ ابتلي بعض جيرانهم باحتراق بيوتهم بالكامل ومقتل أبنائهم الشباب جراء الإعدامات الميدانية.
روت لي جارتهم أم أيمن كيف فقدت إبنها ذا السّبعة عشر عاماً في المجزرة التي سبقت القصف بأيام، وكيف فجّر شبّيحة حي مساكن الحرس الجمهوري، الموالي للنظام والملاصق لقدسيّا، عبوّة ناسفة أمام مدرسة ممّا أوقع عديداً من الإصابات بين الأهالي. كان ذلك يوم الخميس 27 أيلول/سبتمبر، بعد هدنة امتدت حوالي الشهرين بين المنطقتين. رد أفراد الجيش الحرّ في قدسيّا على التفجير بالإشتباك مع المسلحين في ذلك الحي وقتلوا البعض منهم، الأمر الذي دفع أولئك الشبّيحة إلى مهاجمة قدسيّا بعد يومين، كما تقول أم أيمن، محتمين بدروع بشرية من شبّان ونساء، كان إبنها بينهم.
أخطأ هؤلاء المسلحون الموالون للسلطة الظن عندما اعتقدوا أنّ الجيش قد اقتحم قدسيّا، الأمر الذي شجعهم على الهجوم عليها بدورهم، مستخدمين بعضاً من الأهالي العزل دروعاً بشرية. وعندما اكتشفوا أنّ الجيش النظامي لم يدخل قدسيا، عادوا أدراجهم بعد أن أعدموا الأشخاص الذين احتموا خلفهم.
ذكر لي أحمد أنّ هذه المجزرة أودت بحياة 12 شخصاً عرفت أسماؤهم، بينما أصر أهله وجيرانه على أعداد أكبر. وقد نشر مقطع فيديو على موقع يوتيوب يظهر جثث ستة أشخاص تم ذبحهم، ويذكر المصور أنّ المقطع قد سُجِّل يوم 28 أيلول/سبتمبر.
بدأت السلطات الرسميّة بعدها بنشر تقارير متلفزة عبر محطاتها، تظهر فيها من يزعمون أنهم أهالي بلدة قدسيّا، يطالبون بدخول الجيش وتخليصهم من العصابات الإرهابية. أدرك أهل قدسيّا أن ذلك إنذاراً لما سيقوم به النظام، وهي محاولة اعتادها السوريّون، يعتمدها النظام لتبرير اقتحامه المدن أمام جمهوره من الموالين.
أخبرني أحمد وأهله وجيرانهم، القابعون اليوم بعيداً عن بيوت لا يعرفون متى يعودون إليها، كيف أنّ حياتهم كانت جميلة، في الفترة التي سيطر فيها الجيش الحرّ على قدسيّا. فلا خوف من أمن أو جيش، ولا خشيّة من قول كلمة أو رأي. وتؤكّد أخته داليا أن شبّان الجيش الحرّ كانوا في غاية التهذيب، على عكس أفراد الجيش النظامي، الذين كانوا يضايقون الفتيات بشكل مستمر.
يتذكّر أحمد قصته مع السيّدة المسنّة في الحافلة، وتدمع عيناه مشيحاً بوجهه عنّا.