في وداع عمر أميرالاي: عن الوثائقي الذي لم ينجزه..

احتضن تراب دمشق منذ أيام، مخرج الأفلام التسجيلية عمر أميرالاي؛ الذي تُوفي بشكل مفاجئ يوم السبت الماضي عن 67 عاماً. أميرالاي أخرج عشرين فيلماً تسجيلياً رصدت بعين فنان ملتزم ومثقف ذي ضمير مستقل جوانب من التحولات الاجتماعية والسياسية في سورية خلال العقود الأربعة السابقة. وفي حين يعترف مهتمون ومتابعون لأعماله، التي يُمنع عرض أغلبها في سورية ويُتاح بعضها على شبكات التواصل الاجتماعي، بقيمتها الفنية والمهنية، فإنها لا تستنفد جوانب شخصيته كمثقف وناشط سياسي.

برحيله المفاجئ هذا، ترك أميرالاي غصة ودهشة وأسئلة في قلوب ونفوس وعقول آلاف السوريين ممَنْ اعتادوا رؤيته إلى جانبهم في أنشطتهم السياسية والفكرية والفنية، ناقداً ومحتجاً ومعارضاً. عرفه طيف واسع من الناشطين والمثقفين السوريين شريكاً لهم في عدد من الأحداث التي شكلت معالم تدخلهم في الشأن العام الداخلي خلال السنوات الأخيرة، كأن آخرها توقيعه على بيان وجهه عدد من المثقفين السوريين تحية لثورات الشباب في تونس ومصر قبل بضعة أيام من وفاته.

ينتمي الراحل إلى جيل من السوريين آمن “بتغيير العالم من حوله بقوة الأفكار والخيال، لا بقوة المال أو السلاح”؛ جيل “طوباوي همام… رغم ما ارتكبه من أخطاء وقصر نظر وحماقات مريعة في السياسية والاجتماع” حسب تعبيره هو. جيل شحنته وحركته الأيديولوجيا وخذلته وقائع السياسة والثقافة والمجتمع. لكنه يقول: “قد نكون هُزمنا على مستوى الثقافة والأفكار التي آمنا بها، إنما على مستوى المشروع الفردي لم أُهزم، وكذلك على مستوى أعمالي التي لا تخضع لشروط العابر والراحل”. لعل هذه العبارات تلخص تجربة أميرالاي، الجيل والفرد. من اليساري الذي يعول تعويلاً مفرطاً على أيديوجيا شمولية إلى المثقف الفرد ذي الخيارات السياسية والاجتماعية المحددة بدقة.

يعطي أميرالاي لهزيمة العرب 1967 أمام إسرائيل دور الصدمة التي أعادت “وعيه بالواقع”؛ ورغم ذلك لم يصنع “فيلماً واحداً عن فلسطين”، ولم يلتحق بالمسار الرسمي للسلطة الذي يضع الصراع العربي الإسرائيلي أولوية قصوى، بل انحاز إلى معركته الحقيقية في تمكين المواطن السوري من “حريته وكرامته” في بلده. كما يرسم لثورة الشباب، مايو 1968، في فرنسا دور نقله من “الوعي بالواقع إلى التسييس مباشرة”. هذا التسييس الذي دفعه مؤخراً إلى أن يقول إن ما يود تحقيقه هو “أن أقدر على ممارسة حقي الانتخابي بحرية يوماً ما في بلدي، قبل أن أموت، وهو أبسط الحقوق”.

تكاد الأفلام التسجيلية التي كرسها اميرالاي للواقع السوري تدور حول موضوعة وحيدة: التضاد الصارخ بين خطاب الحكم الشمولي لحزب البعث والواقع الفعلي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي للسوريين. ففي عمله “الحياة اليومية في قرية سورية”، وقد أنتجته، وهذا ما يُثير الحس بالمفارقة، المؤسسة العامة للسينما في سورية بالعام 1974، نسمع صوت أمين حلقة لحزب البعث في قرية المويلح، محافظة ديرالزور، يردد البلاغة البعثية الجاهزة والدائمة: “تغيير واقع المجتمع تغييراً جذرياً”، في حين تجوس الكاميرا المكان وتلتقط مشهداً مغايراً: فقر، بيوت طينية، ملابس رثة، طعام لحفظ البقاء وحسب. وكذا الحال في فيلم “طوفان في بلاد البعث”، الذي أُنتج في العام 2003. فعندما يُسأل طفل “ماذا علمكم حزب البعث؟”. يُجيب مرتعشاً مشتتاً مستذكراً: “الثقة بالنفس”. وفيه نسمع صوت المعلم يلقن تلاميذه مغزى قصة في كتاب القراءة: “حتى الحيوان الصغير الأليف يفهم معنى الحرية، فكيف بالبشر؟”. هذا المعنى الذي مارسه أميرالاي فناناً. وعمل ناشطاً على تمكين مواطنيه منه عندما ساهم في تحركات المعارضة الديمقراطية في سورية بدءاً ببيان الـ”99″ مثقفاً في العام 2000.

لكن المخرج المقيم في حلم تغيير الواقع، لم ينتظر ليشهد انحسار طوفان حكم البعث الشمولي عن بلاده. لم ينتظر ليشهد انحسار الحجاب المفروض على الحقيقة “بمنطق أصولي أمني”، وإن كان، في أيامه الأخيرة، راقب ثورات شبابية جديدة، في منطقته هذه المرة، تبدأ بكنس الطغيان. فمَنْ يدري؟. لعله ، قُبيل وفاته، حلم بصناعة فيلم جديد يرصد تنامي الاحتجاجات وأدوار الشباب والمثقفين في بلده ينجزون حلمه وحلمهم في الوصول إلى صندوق الاقتراع؛ فيلم تطابق كلماتُه صوره.

—————–

*كل ما ترد بين حواصر اقتباس من عبارات في هذا المقال هي اقباسات أقوال لعمر أميرالاي مأخوذة من لقاءات أُجريت معه. أولها أجراه معه “أُبي حسن” تحت عنوان “حوار مع المخرج السينمائي عمر أميرالاي: كان صعباً على مَنْ يُجالس الحريري ألا يغيّر نظرته إليه” ونُشر في محلق “نوافد”، صحيفة المستقبل بتاريخ 12-2-2006. والثاني أجرته معه “رنا زيد” تحت عنوان “أميرلاي: المؤسسة العامة للسينما أحد المسؤولين عن تردي حال الفيلم في سورية”ونشر في موقع “كلنا شركاء” بتاريخ 24-2-2009؛ واللقاء الثالث أجراه”محمد الأنصاري” تحت عنوان “عمر أميرلاي يُخرج فيلماً عن حياة الممثلة إغراء” نُشر في صحيفة البيان وأعاد موقع “كلنا شركاء” نشره بتاريخ 12-7-2010.