في سوريا… بيوتٌ اشتاقَتْ لأهلها!

أحد الأحياء السكنية في منطقة الكباس عند أطراف دمشق تصوير كرم منصور

أحد الأحياء السكنية في منطقة الكباس عند أطراف دمشق تصوير كرم منصور

"حزني الشديد على منزلي ليس لأنهُ حجارة ودُمّرت، بل لأنهُ ذكريات رحلت.... ذكريات كانت تحتوينا وتتحدّث عنا وتعرف قصصنا... جميعاً صارت حطاماً"

كرم منصور

في شباط/فبراير 2013، خرجتْ عائلة أبو سلام من منزلها المشرف على حي بابا عمرو، حيثُ اشتدّت المعارك بالقرب من مكان سكنها عندَ خط تماسٍ يفصل بين قوات النظام وفصائل المعارضة. ومنذُ ذلك الحين تركت العائلة منزلها إلى غيرِ رجعة.

يقول أبو سلام: “هربنا من الحي ليس لأننا من أصول علوية، فالجيران يحبوننا ولم نشعر بتفرقة بينهم، لكنَّ قصف النظام الهمجي علينا جعلنا نهرب بعدما علقنا في المنزل لأسبوعين”.

أبو سلام المعارض السابق هربَ إلى حي عكرمة، وهناك تعرَّفَ على أبو عدنان النازح من ريف حمص، والذي كان يتعرّض بشكلٍ مستمر لمضايقات جيش النظام في الحي… فما كان بهما إلا أن بدّلا منزليهما، فأبو عدنان ذهبَ إلى حي بابا عمرو وسكنَ في منزل أبو سلام بعدما صارَ الحي تحت سيطرة المعارضة، وأبو سلام سكنَ في منزل أبو عدنان في حي عكرمة!

يقول أبو سلام: “تبادلنا المنازل، وصارَ ينام على سريري ويستخدم ملابسي، وأنا أفعل ذلك في منزله”! قصة تبادل المنازل قد لا تكون كثيرة في سوريا، لكنّ قصة المنازل نفسها هي أصل الحكاية. فـبين تهجيرٍ قسري، ومضايقات أتباع النظام للمستأجرين، والاستيلاء على المنازل الفارغة واشتياق المنازل لأهلها، تتعدَّد الحكايات…

موقع حكايات سوريا كما استمع لقصة أبو سلام وأبو عدنان في حمص، استمعَ كذلك للعديد من القصص المروية في دمشق والتي تحكي عن صعوبات السكن ومرارة فراق المنازل.

أحمد (23 عاماً) يقطن في حي الزاهرة وسط العاصمة يقول لحكايات سوريا: “منذُ العام 2012 بدأ العديد من الأُسر هنا بترك منازلهم بعدما وصلت الحرب إلى تخوم دمشق، في حين صدر تعميم من أمناء الفرق الحزبية في العديد من الأحياء بضرورة أن يُبلّغ المخاتير مراكز مليشيات الدفاع الوطني التابعة للنظام عن البيوت الفارغة من سكانها، وذلك طبعاً كي يتم الإستيلاء عليها!”

من جهتها تقطن أم محمد (44 عاماً) في بلدة دمّر المجاورة لدمشق. وتروي لموقعنا عن معاناتها وتقول: “في أحد الأيام أتى عناصر من الفرقة الرابعة التابعة لجيش النظام والمعروفة ببطشها، دقّوا بابي وسألوا عن المنزل المجاور لمنزلي، فقلتُ لهم أنها تلك شقّة إبني وهو مُسافر منذ نهاية العام 2011… فما كان إلا أن طلبوا مني أوراقاً ثبوتية تثبت ملكية إبني للشقّة، وحصل ذلك… لكن مع هذا، في اليوم التالي أتى عقيد من الجيش وطلبَ مني مفاتيح الشقة كي يسكن فيها مع عائلته، وسكنوا واستوطنوا فيها وكل ما فيها صارَ لهُم!”

تفادياً لتكرار السيناريو الذي وقعت فيه أم محمد، صارت العائلات في دمشق تتوزّع على المنازل ولا تترك منزلاً فارغاً من بيوت الأقارب النازحين أو المسافرين. وبذلك يقطعون الطريق على النظام وأعوانه من الإستيلاء على منزلٍ فارغ!

هذا بالنسبة لتبديل المنازل، والإستيلاء على الفارغ منها من قِبَل النظام… أمَّا السكن في المستودعات والمحلات التجارية التي أصبحت ملاذ العائلات الفقيرة فهذا ما يُخبرنا عنهُ أبو جهاد (38 عاماً) من حي القابون الدمشقي.

أبو جهاد يقول لحكايات سوريا أنهُ منذُ العام 2013 نزح مع عائلته من الحي بسبب اشتداد قصف النظام على الحي، ويُضيف: “بحثتُ عن منزلٍ للإيجار في دمشق، لكني تفاجأت بغلاء الأسعار ففشلَ مسعاي، إلى أن قدَّم لهي أحد الأقرباء عرضاً بالسكن في محلٍ تجاري، وما كان بي إلا أن قبلت العرض، فلا يوجد بديل أمامي”.

استأجرَ أبو جهاد المحل الذي تعود ملكيته لشخص معتقل لدى النظام، وكان الإيجار بسعرٍ مقبول نسبةً لبقية الأسعار لو أنهُ اضطرَ لاستئجار شقّة… ويقول: “ها أنا وعائلتي نعيش وسط أصوات الباعة في السوق وفي الليل ننعم بالسكينة حينَ تُغلَق المحال… ومساحة المحل تقارب الـ 50 متراً لكني أحمدُ الله على كل شي، مع أني أتمنى طبعاً أن أقدّم لعائلتي ما هو أفضل من ذلك”.

ويواجه أبو جهاد كما كل المستأجرين في دمشق مشكلة الحصول على الموافقات الأمنية بين الفينة والأُخرى التي باتت شرطاً لاستمرار عملية التأجير.
فقد أصدرَ النظام قراراً باشتراط الحصول على موافقةٍ من جميع الفروع الأمنية لإتمام عملية التأجير، وكذلك يجب تجديد هذه الموافقة كلّما تمَّ تجديد الإيجارات، بالإضافة إلى الإستفسار الدائم والمزعج عن كل منزل، هذا الاستفسار يأتي أحياناً على شكل مداهمات. بالإضافة إلى الهَم الأكبر وهو غلاء الإيجارات واستغلال المؤجّرين لظروف الحرب ورفع الإيجارات بأسعار خيالية كلما استحقَّ تجديد العقد، الذي يكون أحياناً لشهرين أو ستة، من أجل رفع الإيجار بعدَ هذه الفترة!

أمّا الموافقات الأمنية في بعض المناطق، فيجب تأمينها شهرياً من المكتب الأمني للحي. باعتبار أنّ تلك المناطق لها وضع خاص بالنسبة للنظام كحي العمارة وشارع بغداد، وإن لم يتم التجديد وبالتالي الإستغلال والحصول على الرشاوي، يُعتبر المستأجر مُلاحقاً قانونياً!
وهذا ما يرى فيه البعض محاولة ممنهجة لتهجير السكّان، وبشكل خاص مَن يشعر بالخوف من مواقفه السياسية حتى لو لم يعلن عنها، وبذلك تصبح الحياة في دمشق مريرة سواء باستئجار أو بدون، بالإضافة إلى غلاء المعيشة!
“حينَ يترك الشخص مكان إقامتهُ مُرغماً، ويتنقّل من مكانٍ إلى آخَر، فإنَّ ذلك لا يُحدثُ تغييراً لناحية مكان السكن والبيئة المُحيطة وحسب، بل ينعكس عليه نفسياً وبدرجة عالية”. هذا ما تقولهُ نادين مسؤولة الدعم النفسي في إحدى شعَب الهلال الأحمر في ريف دمشق.

وتُضيف نادين: “منذ بدء حركة النزوح في البلاد، ونحنُ نتابع حالات المهّجرين الذين يعانون من تعلقٍ خاص بالمكان، وحنين شديد للماضي وإلى البيوت التي تمثّل الذكريات”.

وتتذكّر نادين حالة أحد الأشخاص الذي عرفَ بأنَّ النظام قد قصفَ منزله وصارَ حطاماً، ما سبَّبَ لهُ حالة إغماء، وحين استيقظَ قال: حزني الشديد على منزلي ليس لأنهُ حجارة ودُمّرت، بل لأنهُ ذكريات رحلت…. ذكريات كانت تحتوينا وتتحدّث عنا وتعرف قصصنا… جميعاً صارت حطاماً”.

وتقول نادين: “الكثير من الناس لا يتقّبلون بعد فكرة أنهمُ أصبحوا دون منازل، وأنهم خسروا ما كانوا يمتلكونه ويمرون بصعوباتٍ نفسية لهذا الأمر، فالمنزل يعني رمزية كبيرة… وإلى اليوم يقولون: سنعود إلى منازلنا ولو كانت حُطاماً، وسنشيّد خيمة نعيشُ فيها”.