في الغوطة ومع دوي أصوات القصف يسألون: عادي أو كيماوي؟

(حمورية، سوريا) – في يوم من أيلول/ سبتمبر، وقف بعض الصبية في أحد شوارع حمورية في الغوطة الشرقية في ريف دمشق، يتناقشون الوضع في حال حصول ضربة كيماوية كما يفعل الكبار. يقول الأول: “أنا لن أنام في الليل بعد اليوم، سأنام في النهار، فعندها سيوقظني أهلي إذا ضَرِبنا بالكيماوي”، يقول الثاني: “أنا لا أستطيع النوم في النهار، فلدي عمل”. يضيف آخر: “ناموا في الليل، وارتدوا كمامات”. يوافق الآخران على الحل الذي يبدو لهما صائباً، وإن كانت الكمامات التي يقصدونها، هي تلك التي يستعملها أطباء الأسنان عادة، لن تحميهم من الغازات السامّة.

المسعف أبو وائل من بلدة زملكا يقول إنه اختار اللون للأقنعة الواقية التي يشرف على صناعتها لأنها تذكر الأطفال بشخصية الرسوم المتحركة "سبونج بوب."
المسعف أبو وائل من بلدة زملكا يقول إنه اختار اللون للأقنعة الواقية التي يشرف على صناعتها لأنها تذكر الأطفال بشخصية الرسوم المتحركة “سبونج بوب.”

في هذه البلدة البالغ عدد سكانها حوالي 25,000 نسمة، الكثير من الأهالي يستيقظون مذعورين عند سماع أصوات انفجارات الضربات الصاروخية الليلية، يطرقون أبواب جيرانهم متسائلين، “هذا عادي ولّا كيماوي؟” لا يزال الخوف من ضربة كيميائية جديدة منتشراً، بعد الهجوم الذي طال الغوطة الشرقية ليلة 21 آب/ أغسطس. وقد ذكر تقرير أعده “مركز توثيق الانتهاكات” علاج أكثر من 300 مصاب في المركز الطبي في حمورية، توفي 27 منهم، من أصل 1302 شخصاً ماتوا جراء الهجوم على الغوطة، بحسب  تقرير أعده “مركز توثيق الانتهاكات في سوريا”، كما أصيب ثمانية مسعفين من حمورية أثناء تقديم العلاج للآخرين من أبناء المنطقة.

زملكا وجزء من عين ترما، البلدتان اللتان نالتا الحظ الأكبر من الصواريخ الكيميائية في الغوطة الشرقية، هُجِرتا بشكل شبه كامل بعد الضربة، لكن بعض الأهالي عادوا حذرين “فكل شيء أهون من النزوح” تقول أم خالد من زملكا، وهي التي جربت الخروج من بيتها مجبرة عدة مرات خلال العامين الماضيين. عادت أم خالد إلى زملكا حيث تقطن هي وبناتها الخمس، دون شابين فقدتهما في الضربة الكيميائية، وزوج خسرته في شهر رمضان الماضي برصاص قناص، قامت بتنظيف المنزل جيداً وغسل الثياب التي كانت على الحبال عدة مرات، رغم شح الماء، فتلك كانت تعليمات الأطباء. تقول: ” أتت لجنة المراقبين بألبسة خاصة وأقنعة، هم يخافون على حياتهم، نحن اعتدنا هذا الأمر”.

فقدت أم خالد التي تبلغ الخمسين من العمر27 شخصاً من عائلتها وعائلة زوجها وكررت جملة يقولها معظم الأهالي: “عيل بحالها راحت (عائلات بأسرها قضت)”. ابناها المسعفان توفيّا مع مسعفين آخرين، لعدم وجود أقنعة لديهم، فمعظم الأهالي خرجوا للمساعدة دون وعي كافٍ باحتياطات التعامل مع الغاز، رغم أنها لم تكن الهجمة الكيماوية الأولى، لكنها الأعنف.

 أبو وائل، (30 عاماً)، مدرب في مجال الدفاع المدني، قام بوضع قميص مبلل على وجهه قبل اقتحام بيوت منطقة زملكا البلد، لإخراج المصابين، “كنا نخلع الأبواب، نغسل وجوه المصابين بالمياه القليلة التي لدينا، نخرجهم على ظهورنا إلى سيارات مدنية حضر أصحابها للمساعدة”.

خسر أبو وائل عدداً كبيراً من أصدقائه المسعفين، بسبب قلة التنظيم والتدريب على التعامل مع مثل هذه الحالات حسب ما يقول، ورغم محاولاته الكثيرة السابقة تشكيل فرق دفاع مدني إلا أن المجالس المحلية والداعمين لم يلتفتوا لأهمية ذلك حتى حلت هذه المأساة.

اليوم يقوم أبو وائل بواسطة جهاز إسقاط ضوئي قديم بشرح مبادئ “الإخلاء والإجلاء” لعدد من الفرق حديثة التشكيل للدفاع المدني، كما يشرف على إنتاج أقنعة محلية الصنع، تحوي الفحم النشط، وهو ما يساهم في حماية بسيطة من الغاز، لا تتجاوز الساعة. فإدخال أقنعة الوقاية من الغازات السامة إلى المنطقة، مهمة شبه مستحيلة في ظل الحصار القائم. صنع أبو وائل، الذي كان يعمل سابقاً ببيع ألعاب الأطفال، ما يزيد على الألف قناع للكبار، ستوزع بتكاليف التصنيع على المسعفين والعاملين في القطاع الطبي، وعلى المتواجدين في الجبهات الخطرة. ويحاول مع  زملائه الحصول على الدعم المادي والمواد اللازمة لتصنيع عدد يغطي حاجة الأهالي في المناطق الأكثر سخونة. اختار أبو وائل اللون الأصفر للقناع، كي يقبل الأطفال بوضعه على رؤوسهم، “يراه الصغار مثل الشخصية الكرتونية “سبونج بوب” فلا يتذمرون من ارتدائه، الأقنعة التي صنعناها باللون الأسود أخافتهم”، يقول أبو وائل.

مي، الطبيبة في أحد مراكز العلاج في عين ترما، وهي مختصة بالتخدير، لا تزال آثار تلك الليلة بادية عليها أقلّه عبر الخدوش في يديها، بعد تكسيرها العشرات من أمبولات الأتروبين، الدواء الخاص بمعالجة آثار السارين. تذكر مي أن الكثير من الأهالي يأتونها ليسألوا عن كيفية التصرف إن تم ضرب الغوطة بالغاز مرة أخرى. “معظم السكان شبه واثقين أنه ما من رادع للنظام عن ضربهم مرة أخرى وأخرى، بالكيماوي أو حتى الجرثومي أو النووي إن كان لديه”، تقول مي.

هنا يجمع معظم الأهالي على وصف يوم 21 آب/ أغسطس بأنه “مثل يوم القيامة”. ولا يخطر ببالهم تساؤل عن الجهة التي ضربتهم بالكيماوي، وفي هذا الإطار يقول  عضو المجلس المحلي في زملكا أبو صلاح “نحن في هذا الحصار والقتال مع عدو واحد منذ أكثر من عام، وليس لدينا من نشك به سواه”. ويذكر أبو صلاح كيف كان القصف في الصباح بعد الكيماوي بالصواريخ والهاون وقذائف الطائرة الأعنف على الإطلاق. ولا تعنيه كثيراً المتغيرات الدولية، “بلا كهرباء ولا نشرات أخبار التلفاز يسهل علينا عدم الاكتراث بما يجري من قرارات، والتركيز على العمل، فلا أحد يقف معنا”.