فستان الزفاف ينتظر صورة مع أبي
سيدة وطفلتها تقطع الشارع أمام مبنى مهدم في حي المرجة في حلب. تصوير حسام كويفاتية
انتظرته كعادتي فجاء بعد توقف القصف وحلول الظلام. طلب مني أن أحدّث أمي بموضوع زواجنا الذي تأخر. لقد مضى على خطبتنا عامان، ونحن ننتظر أن تتحسن الظروف لنتزوج. لكن الأوضاع لا تبشّر بالخير، بل على العكس فهي تزداد سوءًا يوماً بعد يوم.
قلت له لنتحدث مع أمي سوياً، علّها تقتنع منّا، فهي بعد استشهاد أخي لم تعد تتحدث معنا كثيراً. غالباً كانت تدخل غرفتها وتغلق على نفسها. تنظر إلى صور أخي الشهيد و أبي المعتقل في هاتفها المحمول.
اصطحبت خطيبي إلى الغرفة الأخرى حيث كانت أمي. بدأت بالحديث وقبل أن أدخل في موضوع العرس، قاطعتني أمي: “ما رأيكم أن نقيم العرس بعد شهر؟ فؤاد منزلك أصبح جاهزاً أليس كذلك؟”
أجابها خطيبي: “نعم كل شيء جاهز، وأنا فقط بانتظار موافقتك لأبدأ تحضيرات الزفاف”.
تبادلت النظرات مع خطيبي فرحاً بموافقة أمي. بدأنا التجهيزات والإعداد لتلك الفرحة التي طال انتظارها.
كانت أمي وبالرغم من ظروفنا المادية الصعبة، تريد أن تقيم عرسي كما لو كان والدي موجوداً وألّا تحرمني من شيء. كانت والدتي تردّد باستمرار: “والدك لم يكن ليقبل أن يزفّك إلى عريسك إلا بشكل كامل، وأنا سأنفّذ ما أعرف أنه يسعده. حتى أخيك زهير كان سيفعل المستحيل لإسعادك”.
تكلمت أمي مع صديقتها التي مازالت تسكن في دمشق، وطلبت منها أن تذهب إلى السوق لتشتري لي فستان الزفاف فوافقت. بدأت ترسل لنا صور الفساتين لأختار أحدها.
صديقة أمي تولّت شراء الملابس لي من العاصمة. خاطرت بنفسها وجاءت إلى دوما عن طريق ذلك الحاجز الذي لا توجد كلمات مناسبة لتصفه. لم يكن الحصار قد بدأ بعد على الغوطة الشرقية. كان ذلك في بداية التضييق على المدنيين في الغوطة.
أذكر يومها عدت من عملي في ذلك اليوم، حين سمعت أصوات ضجيج تأتي من غرفة استقبال الضيوف. هنا أطلّت أختي الصغرى مرحبة بقدومي، أمسكت بيدي وأدخلتني بسرعة إلى الغرفة لأشاهد الفستان الأبيض بيد أمي.
آه كم هو جميل. تماماً كما شاهدته بالصور. من شدة فرحتي نسيت الترحيب بالضيوف. خاصة صديقة أمي التي قامت بمعانقتي. طلبت منّي أن أرتدي الفستان. وبسرعة فائقة ارتديته لأسمع التعليقات. الجميع أظهروا مدى إعجابهم، وبدأوا بالمباركات.
أسرعت إلى أمّي أسألها رأيها. لكنها كانت صامتة، عيناها تحدثتا عنها. دموعها التي حاولت عدم إظهارها خرجت غصباً عنها. عانقتها وارتميت في حضنها. بدأت تبرر بأن تلك الدموع هي دموع الفرح. كنت أعلم في سرّي أن أمي تحاول إخفاء حزنها. كنت أنا أيضاً أحاول أن أسعدها بأي شكل، وأتجاهل وجعي لفقدان أبي وأخي.
قررت أمي أن يكون حفل الزفاف في منزلنا. علّ الفرحة والابتسامة تعود لتسكنه من جديد، بعد عامين من الحزن والأسى، فوافق خطيبي على ذلك. بنات العائلة جئن جميعاً لتجهيز المنزل قبل أسبوع من حفل الزفاف. مع أن كل واحدة منهن تملك من الأحزان ما يفوق طاقة المرء على التحمل. ابنة خالتي زوجها معتقل منذ سنة. ابنة خالي أيضاً فقدت زوجها قبل عام، كانت حامل وأصبح عمر ابنها أربعة أشهر، هو لا يعرف شكل أبيه. خالتي، ابنها استشهد في الجبهة قبل أخي بشهرين. ولكن الجميع يريد أن يفرح.
كنا نعلم أننا بصمودنا ومقاومتنا ومتابعتنا للحياة، ننفذ وصية شهدائنا الذين ضحوا بدمائهم من أجل أن نحيا حياة كريمة، لا يوجد فيها ظلم نظام الأسد وأعوانه.
ذهبت إلى سوق المدينة مع صديقاتي وقريباتي نبحث عن أدوات الزينة للمنزل. لكنها كانت قد نفذت من السوق. البائعون لا يهتمون بالزينة، فالبلد في وضع حرب و لا أحد يهتم بهذه الأمور. أدركنا أننا مجانين. كل محل كنا ندخل إليه ونسأل من فيه عن تلك الأشياء كان يستغرب سؤالنا. حتى أن أحدهم لم يخفِ استغرابه، وقال لنا: “من يحتاج إلى تلك الأشياء في هذا الوقت. الناس تبحث عن كيلو طحين أو أرز أو سكر، وليس عن أوراق ملونة”.
بصعوبة بالغة حصلنا على بعض الأوراق والألوان. قررنا أن نصنع الزينة بأنفسنا. في منزلي بدأت تلك الورشة الفنية عملها، وتمت المهمة. انتظرنا الصباح بفارغ الصبر، لم نكن ننعم بالتيار الكهربائي، والبطارية التي نستخدمها في إنارة المنزل كانت ضعيفة.
تقاسمت الفتيات العمل، أما أنا فاصطحبتني خالة أمي إلى مصففة الشعر التي بدأت بعملية التزيين. كانت معي أختي الصغرى، وستلحق بنا في ما بعد أختي الثانية، بعدما تنتهي من عملها في المنزل.
بقيت أربع ساعات في صالون التزيين. عدت بعدها إلى المنزل حيث كانت الفتيات يقمن بتحضير أنفسهن، واختيار الأغاني المناسبة لحفلة العرس. كان البيت كخلية نحل، كل الغرف مشغولة، وعند وصولي بدأت الزغاريد. بسرعة دخلت إلى الغرفة حيث تم تحضيري للعرس.
على إيقاع أصوات أغنية العروس بدأ الحفل. الفتيات أظهرن كل مظاهر الفرح. منزلنا عادت الفرحة إليه من جديد. كنت سعيدة جداً، حتى أمي الحزينة رأيت الفرح في عينيها. بنات العائلة كلهن غمرتهن السعادة.
عندما جاء العريس قمنا بالتقاط الصور، وانتهى العرس وذهبت مع زوجي. يوم عرسي الذي كان في 22 تشرين الأول/أوكتوبر 2013، مازلت إلى الآن أحتفظ منه بفستان زفافي. أنتظر أبي لأرتديه أمامه، وألتقط تلك الصورة التي حرمت منها في يوم عمري.
سمر الأحمد (25 عاماً) أخت شهيد، ابنة معتقل. تعمل في المجال الإغاثي، متزوجة ولديها طفلة. وتعيش بالغوطة الشرقية المحاصرة بريف دمشق.
بإمكانكم قراءة هذا المقال باللغة الإنكليزية على الرابط التالي